الشيخوخة المُهانة!

منى حامد

28 أكتوبر 2025

340

لم يكن المشهد عابراً، ولم يكن مجرد فيديو لـ«ترند» يتداوله مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، فقصة الرجل المصري المسن، البالغ من العمر 66 عاماً، الذي يقف بملامح واهنة وجسد أنهكه المرض، حين باغته صاحب الشقة وشقيقه بالضرب والإهانة، مثلها مثل آلاف القصص التي لم تصور، وعشرات أخرى يجري تداول مقاطعها في دول عربية أخرى.

سرعان ما اجتاح المقطع منصات التواصل مخلفاً غضباً واسعاً، لكنه في الوقت نفسه أعاد فتح جرح أعمق يتجاوز الواقعة نفسها، يتمثل في ظاهرة الإهمال في حق كبار السن، بل والاعتداء عليهم.

وبينما كانت التعليقات الغاضبة تتوالى، انتشر مقطع آخر لرجل يضرب امرأة مسنة بصندوق بلاستيكي أمام المارة الذين وقفوا بلا تدخل، وكان المشهدان معاً كفيلين بأن يطرحا السؤال: إلى أي مدى تراجعت الرحمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟

تقول استشارية المشكلات الاجتماعية والنفسية د. أميمة السيد، في حديثها لـ«المجتمع»: إن ما نراه ليس مجرد وقائع فردية، بل أعراض لما اعتبرته تحولاً مقلقاً في الوعي الجمعي العربي، مشيرة إلى أن تراجع قيم التكافل الاجتماعي جعل المسنين مكشوفين أمام الإهانة والعنف، بعد أن كانوا في الماضي موضع رعاية وتقدير داخل الأسرة.

وتضيف أن هذه الحوادث تترك ندوباً نفسية تتجاوز الضحية نفسها، إذ تولد لدى المجتمع شعوراً عاماً باللامبالاة، وتضعف الثقة في القيم الإنسانية الأساسية التي كانت تشكل نسيج الحياة اليومية.

حقائق مؤلمة خلف الأرقام

باتت الظاهرة بمثابة حالة عالمية، حيث تظهر بيانات منظمة الصحة العالمية للعام الماضي (2024م) أن الاعتداء على المسنين يتفاقم عاماً بعد عام، وأن واحداً من كل 6 أشخاص تجاوزوا الستين يتعرض لشكل من أشكال الإساءة خلال سنة واحدة، سواء في المنزل أو في الأماكن العامة.

كما تشير تقديرات المنظمة إلى أن عدد الضحايا قد يصل إلى نحو 320 مليون شخص بحلول عام 2050م مع تضاعف عدد المسنين حول العالم.

هذه الأرقام، بحسب السيد، لا تعبّر فقط عن خلل في الرعاية الاجتماعية، بل تكشف انهيارًا أعمق في منظومة القيم الحديثة، تقول: حين يُقاس الإنسان بما ينتج لا بما هو عليه، يتحول المسن من رمز للعطاء إلى عبء ثقيل في نظر المجتمع.

وتضيف استشارية المشكلات الاجتماعية والنفسية أن سيطرة النزعة المادية والفردانية على العلاقات الإنسانية أدت إلى تآكل مفهوم الرحمة، فصارت الشيخوخة مرحلة من العزلة بدلًا من أن تكون ذروة الاحترام والتقدير.

وتلفت السيد إلى أن مشهد الاعتداء على رجل مسن مريض أمام أسرته هو في جوهره تعبير عن هذا التحول؛ لأنه يعكس فقدان الحس الجمعي بالكرامة الإنسانية، واختفاء مشاعر الرفق التي كانت تميز المجتمعات العربية والإسلامية عبر القرون.

الشيخوخة العربية بين الإهمال والعزلة

إزاء ذلك، تمتد حالة القلق من هذه الظاهرة الاجتماعية في المنطقة العربية، خاصة وهي تشهد تسارعاً في معدلات الشيخوخة السكانية، فبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، سيزداد عدد كبار السن في الدول العربية إلى الضعف تقريباً بحلول منتصف هذا القرن، في ظل ضعف أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية.

ويواجه كثير من كبار السن صعوبات متزايدة في الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، وتدفع قلة الموارد بعضهم إلى الفقر والعزلة، خاصة النساء اللاتي يفقدن الدعم الأسري بعد التقاعد أو الترمل.

ويؤكد تقرير الصندوق أن كبار السن من النساء هم الفئة الأكثر هشاشة في هذا السياق، إذ تتعرض بعضهن للإهمال أو سوء المعاملة داخل الأسرة نفسها.

الأزمة الحقيقية لا تكمن في نقص القوانين أو المؤسسات، بل في ضعف الضمير الجمعي للمجتمع، فالقانون يمكن أن يعاقب، لكنه لا يربي الرحمة في النفوس؛ ما يتطلب إعادة بناء منظومة القيم من الجذور عبر التربية والإعلام والتعليم، حتى يصبح احترام الكبير سلوكاً متجذراً لا مجاملة اجتماعية مؤقتة.

بوادر إصلاح وحلول ممكنة

في مواجهة هذا الواقع، تسعى بعض الدول العربية إلى اتخاذ خطوات أولى نحو حماية كبار السن، ففي مصر أقر مجلس النواب عام 2024م قانوناً يوفر خطاً ساخناً لتلقي شكاوى المسنين، ويجرم إدخالهم إلى دور الرعاية دون موافقتهم، وفي السعودية، تعمل الجمعيات الخيرية والجهات المجتمعية على تنظيم برامج توعوية وتقديم خدمات الرعاية المنزلية والنفسية للمسنين، في محاولات جادة لاستعادة مكانتهم داخل المجتمع.

وتشير تقارير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) إلى أن تعزيز الرعاية الصحية الشاملة للمسنين يتطلب إيصال الخدمة إلى منازلهم ومجتمعاتهم، بينما يؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي أن رفع قيمة مهن الرعاية ضرورة إنسانية واقتصادية في آن واحد، داعيًا إلى تحسين أجور العاملين في هذا المجال وتأهيلهم.

إن الطريق نحو مجتمع أكثر رحمة لا يبدأ من المؤسسات فحسب، بل من البيت أولاً، فالأسرة هي المدرسة الأولى للرحمة، وتعزيز الوعي الأسري والتربوي أساس أي إصلاح، عبر ترسيخ قيم احترام الكبير وبر الوالدين في المناهج التعليمية، والأنشطة المدرسية، والبرامج الإعلامية التي تخاطب الوجدان لا الشعارات.

بحسب السيد، فإن كبار السن يحتاجون أيضاً إلى برامج دعم نفسي واجتماعي متخصصة، تُتيح لهم التواصل مع مختصين يقدمون استشارات نفسية وقانونية وصحية، حتى يشعروا بأن هناك من يستمع إليهم ويحميهم، على أن تكون القوانين الرادعة حاضرة وفعالة؛ لأن الوعي وحده لا يكفي في مجتمعات اعتادت التساهل مع الإيذاء اللفظي أو الجسدي للمسنين.

كذلك تعد المسؤولية المجتمعية جزءاً لا يتجزأ من الحل، فالمؤسسات العامة والخاصة مدعوة إلى إطلاق مبادرات تطوعية لزيارة المسنين وتقديم الرعاية المنزلية المجانية أو منخفضة التكلفة، لأن إشراك المجتمع المدني في الرعاية يجعلها أكثر استدامة وأقل كلفة، إضافة إلى تأهيل مقدمي الرعاية، سواء الأبناء أو المرافقين أو العاملين في دور الإيواء، من خلال برامج تدريبية تركز على البعد الإنساني والنفسي لا الجسدي فقط، لأن كثيراً من الاعتداءات تنشأ من جهل بطبيعة احتياجات كبار السن.

وفي اليوم العالمي للمسنين، الذي يحتفل به العالم سنوياً مطلع شهر أكتوبر، يجب إعادة إحياء ثقافة البر والاحترام عبر الحملات الإعلامية والتوعية الدينية والدراما الهادفة، ودعم الترابط الأسري بوصفه الحصن الأخير ضد العزلة والاغتراب، فحين تجتمع الأسرة على مائدة واحدة، أو تلتقي في زيارة أسبوعية، فإنها تخلق دفئاً يقي كبارها من الوحدة، ويغرس في الصغار معنى الانتماء، ويخلق رابطاً بين الأجيال، يمهد الطريق لإعادة بناء الثقة والرحمة داخل الأسرة والمجتمع.


اقرأ أيضاً:

7 أمور عليك القيام بها لدعم المسنين

صفعة على وجه الكرامة.. ضحيتها مسن السويس

أمهات على الهامش.. حين يُقابَل الحنان بالعقوق!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة