19 فبراير 2025

|

الصعود الصيني ونهاية عصر أحادية القطبية

يشهد العالم تحولاً جذرياً في موازين القوى، حيث يتراجع التفوق الأمريكي الأحادي لصالح صعود الصين كقوة عالمية مؤثرة، هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة عقود من السياسات الاقتصادية، والإستراتيجية السياسية الحذرة، والتطور التكنولوجي السريع الذي جعل بكين منافساً حقيقياً لواشنطن، فكيف تحقّق هذا الصعود؟ وما تداعياته على النظام الدولي؟

من التعاون إلى التنافس.. بدايات الصعود الصيني

شكَّل لقاء الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بالزعيم الصيني ماو تسي تونغ، في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، ففي تلك الفترة، كانت الصين على علاقات سيئة مع الاتحاد السوفييتي والهند، وتعاني من اضطرابات داخلية ومجاعات واسعة؛ ما دفعها للبحث عن انفتاح اقتصادي يتيح لها الاستفادة من التكنولوجيا والاستثمارات الأمريكية، وعلى هذا الأساس، بدأت الولايات المتحدة في توريد خطوط إنتاج للصين، وتقديم مساعدات لدعم قطاعي الصناعة والزراعة؛ ما فتح الباب أمام ما بات يُعرف بـ«الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، التي رأى الغرب فيها شكلاً من أشكال «رأسمالية الدولة».

مع انهيار الاتحاد السوفييتي، بدا للولايات المتحدة أن النمو الصيني قد يخرج عن السيطرة، وأن الهدف الذي قامت عليه علاقتها بالصين –وهو تفكيك المعسكر الشيوعي– لم يعد ذا جدوى، خاصة أن الاقتصاد الصيني واصل نموه بشكل لافت، ومع بروز الولايات المتحدة كقوة مهيمنة بلا منافس، طُرح مصطلح «أحادية القطبية» ليعكس هذا الواقع الجديد.

التحولات الإستراتيجية الأمريكية والصينية

على الرغم من القلق الأمريكي المتزايد تجاه صعود الصين، فإن الأولويات الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة تركزت على الشرق الأوسط، حيث خاضت واشنطن عدة حروب، أبرزها في العراق وأفغانستان؛ ما استنزف مواردها وشتت انتباهها عن التطورات الآسيوية. 

تحوُّل الصين إلى قطب عالمي يعتمد على التوازن الداخلي والخارجي وتجنب الصدام مع الغرب

في المقابل، استغلت الصين هذا الفراغ لتعزيز قدراتها الاقتصادية والعسكرية، مستفيدة من إقبال الشركات ورؤوس الأموال الأمريكية والغربية على الصين حيث نقلت إليها الكثير من المصانع وخطوط الإنتاج، مستغلة التسهيلات الحكومية، وانخفاض تكاليف الإنتاج متمثلة بالمقام الأول بالعمالة الصينية المدربة والرخيصة والبنية التحتية القوية والسوق الصينية الكبيرة، وبالمقابل استغلت الصين أيضاً استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية ومن كون السوق الأمريكية المستورد الأول لمنتجاتها.

مع مجيء الرئيس دونالد ترمب، تغيّر النهج الأمريكي تجاه آسيا عموماً، والصين على وجه الخصوص، حيث ألغى ترمب عدة اتفاقيات كانت تهدف إلى دمج الصين في النظام العالمي وفق الشروط الأمريكية، واتجه نحو المواجهة التجارية المباشرة، ورغم فرضه رسوماً جمركية مرتفعة على المنتجات الصينية، فإن هذا النهج لم يحقق النتائج المرجوة، إذ أصبحت الصين أقل اعتماداً على السوق الأمريكية، وأكثر قدرة على تنويع صادراتها.

«الحزام والطريق».. توسع النفوذ الصيني

تعد مبادرة «الحزام والطريق» أبرز أدوات الصين لتعزيز نفوذها العالمي، فالمبادرة التي تهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير التاريخي عبر استثمارات هائلة في البنية التحتية، توفر للصين نفوذاً سياسياً واقتصادياً في أكثر من 140 دولة، إذ لم تعد الصين تكتفي بتطوير قدراتها الداخلية، بل تسعى لبناء شبكة اقتصادية عالمية تجعلها لاعباً أساسياً في التجارة الدولية.

وقد برزت تأثيرات هذه المبادرة بشكل واضح في دول مثل باكستان، حيث موَّلت الصين مشروع «الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني» بقيمة 62 مليار دولار، محوِّلة البلاد إلى مركز لوجستي رئيس، غير أن الضغوط الأمريكية حالت دون تنفيذ بعض مشاريعها، مثل تطوير ميناء «جوادار»؛ ما يعكس الصراع المتنامي بين القوتين على النفوذ العالمي.

التكنولوجيا.. السلاح السري للصين

إلى جانب القوة الاقتصادية، تسعى الصين للهيمنة على القطاعات التكنولوجية المستقبلية عبر مبادرة «صنع في الصين 2025»، التي تهدف للريادة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والتكنولوجيا الحيوية، وقد أثارت هذه الإستراتيجية قلق الولايات المتحدة، التي ردت بفرض قيود على تصدير التقنيات المتقدمة إلى الشركات الصينية، وعلى رأسها «هواوي»، ومحاولة حظر بعض التطبيقات مثل «تيك توك».

ورغم ذلك، فإن الصين لا تزال متقدمة في بعض المجالات، مثل امتلاكها 40% من براءات الاختراع العالمية في الذكاء الاصطناعي، مقارنة بـ22% فقط للولايات المتحدة، علماً بأنّ التقديرات تشير إلى أن نسبة المهندسين الصينيين من العاملين في الذكاء الاصطناعي تزيد على 50% من المختصين في هذا المجال عالمياً، وقد ظهر هذا جلياً عندما تم الإعلان مؤخراً عن برنامج الذكاء الاصطناعي «ديب سيك» الذي أدى إلى خسارة البورصة الأمريكية أكبر خسارة في تاريخها.

الجنوب العالمي.. قاعدة دعم للصعود الصيني

تدرك الصين أن تعزيز نفوذها لا يقتصر على المنافسة مع الولايات المتحدة فحسب، بل يمتد إلى بناء تحالفات جديدة في دول الجنوب العالمي، ومن خلال منظمة «بريكس»، تسعى الصين إلى تقليل هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية، حيث ارتفعت نسبة التبادلات التجارية بين أعضاء المنظمة بالعملات المحلية إلى 30%، مقارنة بـ5% فقط عام 2015م، وتقدم الصين نفسها كبديل للنظام المالي الغربي، حيث بلغت استثماراتها في الدول النامية أكثر من 200 مليار دولار عام 2023م؛ ما يجعلها شريكاً رئيساً لهذه الدول في التنمية والبنية التحتية.

تأثيرات الصعود الصيني على العالم العربي تعتمد بالمقام الأول على قوة دُوَله الذاتية

بالإضافة إلى ذلك، عملت على تعزيز حضورها في مؤسسات الأمم المتحدة، وبالتوازي أطلقت مجموعة من المبادرات المهمة في كافة المجالات، داعية دول الجنوب العالمي للتفاعل معها، في ظل إخفاق ما يسمى بالنظام العالمي القائم على القواعد، الذي تم إنشاؤه عقب الحرب العالمية الثانية، حيث يعمل بانتقائية ويتجاهل إلى حد بعيد مصالح معظم دول الجنوب العالمي.

التحديات والقيود على الصعود الصيني

رغم النجاحات التي حققتها الصين، فإنها تواجه تحديات عديدة قد تعيق طموحاتها، أبرزها الضغوط الأمريكية التي تتمثل بالعقوبات الاقتصادية، وفرض قيود على تصدير التكنولوجيا، وحملات إعلامية تستهدف التشكيك في سياسات بكين، بالإضافة إلى ذلك يبرز تحدي التداخل الاقتصادي، إذ إن الاقتصاد الصيني يقوم على الاعتماد التبادلي مع الغرب، فرغم سعي الصين لتنويع أسواقها، فإن 40% من صادراتها لا تزال تتجه إلى الأسواق الغربية.

بالإضافة إلى التحديات الخارجية، هناك أيضاً التحديات الداخلية، إذ يمثل تراجع معدلات النمو السكاني، وارتفاع ديون الشركات المحلية، وضعف استهلاك الطبقة الوسطى، وتمكين المناطق الداخلية، أهم هذه التحديات التي تسعى الصين إلى التعامل معها.

نحو نظام عالمي جديد

لا شك أن الصعود الصيني يمثل تحولاً جذرياً في النظام الدولي، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن عالم أحادي القطبية، خصوصاً في ظل الإخفاق الأمريكي المستمر بمراعاة مصالح دول العالم واعتمادها سياسة شرسة تجعل في قلبها المصالح الأمريكية بعيداً عن أي اعتبار أخلاقي في كثير من الأحيان، ومع ذلك، فإن هناك مجموعة من التساؤلات التي ينبغي أن تأخذ بالحسبان وهي:

هل تتمكن الصين من التحول إلى قطب دولي مكافئ للولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل سيحصل ذلك سلمياً؟ وهل سيكون النظام الجديد أكثر عدالة؟ وهل سيكون ذلك لمصلحة العالم العربي، أم أننا أمام استبدال هيمنة بقطب جديد؟

بالرغم أن التجربة الثقافية والحضارية للصين تختلف اختلافاً جذرياً عن التجربة الغربية عموماً، وبالتالي فإن السلوك الصيني لن يكون نسخة مكررة من التجربة الغربية، مع ذلك فإن تأثيرات هذا الصعود على العالم العربي تعتمد بالمقام الأول على قوة الدول العربية الذاتية، وارتقائها إلى مصاف الشريك الكفؤ للصين، وهو ما يستدعي أن تستعد هذه الدول بما يتناسب مع المرحلة القادمة.

إن تحول الصين إلى قطب عالمي يعتمد على قدرتها على تحقيق توازن دقيق بين تطلعاتها العالمية وتحدياتها الداخلية، ورغبتها في التعاون وتجنب الصدام المباشر مع الغرب، في ظل هذه التغيرات، فإن العالم مقبل على مرحلة جديدة من المنافسة الجيوسياسية، قد تعيد رسم خرائط النفوذ الدولي لعقود قادمة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة