21 فبراير 2025

|

من الأمومة إلى بناء الأمة

عثمان الثويني

19 فبراير 2025

4601

في عالمٍ يتسارع بإيقاعه وتتبدل معالمه بوتيرة لم تشهدها الأجيال السابقة، تجد الأم نفسها أمام مهمة ليست بالهينة، إذ لم تعد الأمومة مجرد تربية أطفال، بل أصبحت مسؤولية بناء أجيال قادرة على مواجهة التحديات المتجددة دون أن تفقد هويتها وانتماءها، فالمرأة التي كانت في السابق عماد الأسرة في حدود بيتها، باتت اليوم مطالبة بأن تكون مهندسة للقيم، ومعلمة للمعرفة، وموجّهة أخلاقية وسط طوفان من المؤثرات التي تحيط بأبنائها من كل جانب.

إن التربية في العصر الحديث لم تعد تعتمد على الأمر المباشر أو السلطة المطلقة، فقد ولّى ذلك الزمن الذي كان الطفل يستقي قيمه من الأسرة فقط، فاليوم باتت منصات التواصل، ووسائل الإعلام، والمناهج الدراسية تحمل تأثيراً لا يمكن إنكاره على تشكيل وعيه وسلوكياته.

وهنا تبرز أهمية الدور التوجيهي للأم، حيث لا يكفي أن تكون حاضرة بجسدها فقط، بل يجب أن تكون متفاعلة وواعية لكل ما يتعرض له أبناؤها، قادرة على استيعاب المؤثرات الخارجية والتعامل معها بحكمة دون أن تلجأ إلى القطيعة المطلقة أو الانغلاق المفرط، فالتربية الواعية هي تلك التي تمزج بين القيم الأصيلة والانفتاح المدروس، دون تفريط أو إفراط.

ولعل أحد التحديات الكبرى التي تواجه الأم اليوم الغزو التكنولوجي، حيث أصبح للأجهزة الذكية، والألعاب الإلكترونية، ومنصات التواصل دور بارز في تشكيل اهتمامات الأطفال وتوجهاتهم، حيث إن منع هذه الأدوات ليس حلًا واقعيًا، فالعالم يتجه نحو الرقمية أكثر من أي وقت مضى، لكن التوجيه الحكيم هو المفتاح. 

إن مسؤولية الأم ليست في مراقبة أبنائها ليل نهار، ولكن في غرس وازع داخلي لديهم، بحيث يستطيعون التمييز بين ما ينفعهم وما يضرهم، بين ما يستحق وقتهم وما يهدره، وهذا لا يتحقق إلا عبر الحوار المستمر، وبناء جسور الثقة، فلا تكون الأم مجرد مصدر للأوامر والنواهي، بل مستشارة يثق بها أبناؤها ويعودون إليها طلباً للنصح، لا خوفاً من العقاب.

إن بناء شخصية مستقلة للأبناء جزء أساسي من العملية التربوية، فالأم التي تمنح أبناءها حرية التفكير والاختيار، وتسمح لهم بتحمل مسؤولية قراراتهم، تزرع فيهم بذور الاستقلالية التي تجعلهم قادرين على مواجهة الحياة بوعي وثقة.

إننا نجد في تاريخ الأمة الإسلامية نماذج مشرقة لأمهاتٍ صنعن من أبنائهن قادةً حملوا همَّ الأمة فوق أكتافهم، فالسيدة أسماء بنت أبي بكر لم تكن فقط أمًا لابنها عبدالله بن الزبير، بل كانت مدرسة في الشجاعة والكرامة، غرست فيه منذ صغره معاني العزة والكرامة حتى صار رمزًا للصمود في وجه الطغيان، فالأم ليست مجرد مربية، بل صانعة رجالٍ ونساءٍ يتركون بصمة في الحياة.

لكن هذه المهمة العظيمة لا يمكن أن تنهض بها الأم وحدها، فلا بد أن يكون المجتمع داعمًا لها في رسالتها، الأسرة الممتدة، والمدرسة، والمساجد، والنوادي الثقافية، كلها مؤسسات يجب أن تعمل في تكاملٍ، بحيث تجد الأم في محيطها من يساندها ويساعدها في توجيه الأبناء نحو المسار الصحيح.

ففي المجتمعات التي تخلّت عن هذا التكامل، نرى الأمهات يُتركن وحدهن في مواجهة أعباء التربية، في حين أن بناء الأجيال مسؤولية مشتركة لا تقتصر على فردٍ أو مؤسسة بعينها، ولعل هذا هو ما يجعل التربية اليوم أكثر تعقيدًا من ذي قبل، إذ لم تعد المسؤولية تقع على عاتق الأم فقط، بل أصبحت شبكةً متداخلةً من الأدوار التي تحتاج إلى تنسيقٍ وتعاونٍ حتى تحقق هدفها الأسمى.

إن إعداد جيلٍ قوي لا يعتمد فقط على نقل المعلومات أو غرس القيم المجردة، بل على الممارسة اليومية لهذه القيم داخل البيت وخارجه، فالأم التي تعلّم أبناءها الصدق يجب أن تكون صادقة معهم في وعودها وتصرفاتها، والتي تغرس فيهم احترام الوقت يجب أن تكون نموذجًا في الالتزام، فالطفل يتعلم بالقدوة أكثر مما يتعلم بالكلام.

ومن هنا تأتي أهمية العادات التربوية الصغيرة التي تصبح مع الوقت جزءًا من الشخصية، فكما أن المجتمعات تُبنى على عادات أفرادها، فإن إصلاح أي أمة يبدأ من إصلاح الأسرة، ولا إصلاح للأسرة دون أمٍ واعيةٍ تدرك أن دورها يتجاوز حدود الرعاية التقليدية، ليصل إلى بناء عقلٍ مستقل، وروحٍ قوية، ونفسٍ تواقة للعطاء.

إن الأم التي تستشعر أن مهمتها ليست مجرد تنشئة أطفال، بل صناعة أمة، ستتعامل مع دورها بمنظور مختلف، لن يكون همها فقط أن يحصل ابنها على درجاتٍ عالية، أو أن يتفوق في دراسته، بل أن يكون لديه حس المسؤولية، وأن يفكر في قضايا مجتمعه، وأن يكون عنصرًا فاعلًا في الإصلاح.

فالعلم وحده لا يصنع أمة، ولكن العلم الممزوج بالقيم والمبادئ هو الذي يبني الحضارات، وكما قيل قديمًا: «إن الأم مدرسة»، لكن هذه المدرسة يجب أن تكون واعيةً بأن التحديات اليوم ليست كما كانت في السابق، وأن دورها لا يقتصر على تربية أبنائها فقط، بل على تهيئتهم ليكونوا قادةً قادرين على مواجهة المستقبل، لا مجرد أفراد يعيشون على هامش الحياة.

إننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في مفهوم التربية، فلا تكون مجرد مهمة تتولاها الأم حتى يبلغ الأبناء سن الرشد، بل عملية مستمرة تبني الفرد على مراحل، حتى يكون قادرًا على حمل رسالته في الحيا، فالأم التي تدرك هذا لن تكون فقط مربية، بل ستكون مهندسةً للأجيال، تصنع بهم الغد، وترسم بهم ملامح مستقبلٍ مشرقٍ للأمة.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة