الصـبر زاد أصحاب الدعوات
كاتب المدونة: د. إسماعيل علي (*)
إن مهمة الدعوة إلى الله عز وجل لا تخلو من العقبات والمصاعب، وطريق الدعوة ليست مفروشة بالورود والرياحين، بل محفوفة بالمكاره، والسـائر فيها عُرْضة للابتلاءات والمحن، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: 186).
ولذلك، فإن على أهل الدعوة أن يتحلُّوا بالصبر، ويتسلّحوا به، وأن يجعلوا نُصب أعينهم سِيرَ الأنبياء والرسل، الذين دعَوْا أقومَهم إلى الله، وقوبِلوا بالأذى والعنت، فصَبَروا حتى أدَّوا أمانةَ الله، وأَبْلَغوا رسالات ربهم.
قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف: 35)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام: 34).
وإنّ الكفار ليسوا أحقَّ بالصبر على عبادة أوثانهم من الدعاة إلى الله، قال تعالى: (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص: 6)؛ قال المفسِّرون: أي اثبُتُوا على عبادتها متحمِّلين لما تسمعونه في حقها من القَدْح، وقيل: إنّ هذا الأمر لَشيءٌ من نوائب الدهر يُراد بنا، فلا حيلة إلا تجرُّع مرارة الصبر، وقيل: الإشارة إلى الصبر المفهوم من «اصبروا»، أي إن الصبر لَشيءٌ مطلوب لأنه محمود العاقبة(1).
«فإذا كان الباطل يُصرُّ ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدرَ الحقَّ أن يكون أشدَّ إصرارًا وأعظمَ صبرًا في المُضيّ في الطريق»(2).
ولقد تعرّض الدعاة على مر الأزمان للابتلاءات والشدائد في سبيل الدين، فتحمّلوا ما لاقوا من محن، وصبروا على ذلك ابتغاء مرضاة الله، ولم تُعِقْهم الابتلاءاتُ عن تحمل أعباء الدعوة، بل كان دأبهم التعالي على المحن، ومواجهتها بصبر وثبات، وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله، حتى يتهيّأ لهم بتوفيق الله اجتيازُ تلك الشدائد، وعبورُها بسلام، وتحقيقُ مكاسبَ وأرباحٍ عظيمة للدعوة الإسلامية.
إن الصبر زاد لا غنى عنه لأيِّ سالكٍ لطريق الدعوة، متحمِّلٍ لأعبائها، «إن أصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها، فلا بدّ لمن يكلَّفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد من أن يثابروا ويثبتوا، ولا بد أن يكرروا الدعوة ويُبدئوا فيها ويعيدوا، إنه لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتوّ وجحود، فإذا كانت المرة المئة لم تصل إلى القلوب؛ فقد تصل المرة الواحدة بعد المئة، وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف، ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب»(3).
«وإن الذين احتملوا في الطريق إلى الله ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا، الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس الذين حُمِّلوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب.. أولئك لن يتركهم الله وحدهم، ولن يضـيع أعمالهم، ولن ينسى جهـادهم، إنه سـينظر إليهم من عليائه فيرضاهم، وسينظر إلى جهـادهم إليه فيهديـهم، وينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بـأيديهم، وسـينظر إلى صبرهم وإحسـانهم فيجازيهم خير الجزاء (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)»(4).
ثم إن الصبر من أعظم أسباب النصر، كما يشير إلى هذا قوله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (سورة البقرة: 249)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا»(5).
وقال عمرُ لأشياخٍ مِن بني عبس: بمَ قاتلتُمُ الناس؟ قالوا: بالصبر؛ لم نَلْق قوماً إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا(6).
ألا ما أجدرَ السائرين في طريق الدعوة أن يتحلّوا بالصبر، وسياسة النَّفَس الطويل، مستشعرين معيّة الله، كما قال سبحانه: (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، ومحبةَ الله لهم، كما قال تعالى: (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، متفـائلين بغَدٍ باسِمٍ، وفجرٍ جديد، وصُبْحٍ مشْرقٍ للإسلام والمسلمين، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم)، (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
______________________________
(1) روح المعاني، للعلامة السيد محمود الآلوسي البغدادي 23/167 باختصار، دار إحياء التراث العربي- بيروت، الكشاف، للإمام الزمخشري (3/ 317)، دار عالم المعرفة.
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، جمع وإعداد أحمد فائز (1/ 199)، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط الحادية عشر 1405هـ/ 1985م.
(3) السابق (1/ 205) باختصار.
(4) طريق الدعوة في ظلال القرآن (1/ 207)، ص208.
(5) الحديث من رواية ابن عباس، أخرجه الطبرانيّ في المعجم الكبير (11/ 123) (11243)، والحاكم في المستدرك (3/ 624) (6304)، والبيهقيّ في شعب الإيمان (12/ 353) (9528)، وصححه الألبانيّ.
(6) جامع العلوم والحكم، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (1/ 488)، تحقيق شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط السابعة 1422هـ/ 2001م.
(*) أستاذ الدعوة الإسلامية والأديان- جامعة الأزهر.