الغيث النافع.. كيف صوَّر النبي ﷺ حال القلوب في استقبال الهدى؟

يحمل الحديث
النبوي الشريف كنزًا من كنوز البلاغة والبيان؛ فهو من جوامع الكلم التي أوتيها
النبي صلى الله عليه وسلم، التي فُضِّل بها على غيره من الأنبياء كما أخبر صلى
الله عليه وسلم عن نفسه.
ويعرف الإمام
المناوي جوامع الكلم في كتاب «فيض القدير» قائلاً: «أي ملكة أقتدر بها على إيجاز
اللفظ مع سعة المعنى بنظم لطيف لا تعقيد فيه يعثر الفكر في طلبه، ولا التواء يحار
الذهن في فهمه».
ومن أبدع هذه
الجوامع الحديث الذي يصور فيه صلى الله عليه وسلم حال القلوب في تلقيها لدعوة
الإسلام، في صورة بديعة ترسم بالكلمات صورًا حية للمستقبلين والمعرضين وما بينهما
من صور التلقي والانتفاع بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن أبي بردة عن
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ
الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَ
مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ
الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ
بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طائفة
أخرى، إنما هي قيعان لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ
مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ
وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى
اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (متفق عليه).
التشبيه التمثيلي وحسن التصوير النبوي
في هذا الحديث،
وظف الرسول صلى الله عليه وسلم التشبيه التمثيلي تشبيهاً رائعاً؛ فوضع معادلة
بيانية محكمة أطرافها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم،
والغيث الكثير النازل على الأرض، ثم صور القلوب في الانتفاع بهذا الهدى والعلم في
صورة تصويرية بديعة وهي صور أنواع الأرض في الانتفاع بالماء.
وهنا مكمن
الإبداع البياني؛ فالرسالة النبوية بكل ما تحمله من هدى وعلم (وهي أمور معنوية)
تُشَبّه بـالغيث (وهو خير نازل محسوس)، ووجه الشبه بينهما هو النفع العام وإحياء
الأرض؛ فكما أن الغيث حياة للأرض؛ فالعلم حياة للقلوب.
أصناف القلوب على ضوء الغيث
لم يكتفِ البيان
النبوي بذلك؛ بل مضى يقسم الأرض (أي القلوب) إلى ثلاثة أصناف، وهو ما يُعرف بالتشبيه
التمثيلي المركب الذي يفصل المشبه والمشبه به في هيئات متعددة وأصناف متنوعة، كل
صنف يمثل موقفًا مختلفًا من الرسالة الإلهية:
أولاً: الأرض الطيبة.. العالم المُعلِّم:
«فَكَانَ
مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ
الْكَثِير»؛ هذا هو الصنف الأفضل، وهو تمثيل للقلوب الطيبة التي قبلت الهدى
(الماء) فاستقرت فيها، ثم أنبتت العمل والتعليم (الكلأ والعشب)، إنه الفقيه الذي
فَقِهَ في دين الله، فانتفع بعلمه ونشره للناس؛ فكانت ثمرته عظيمة كالكلأ والعشب
الكثير، هذا القلب أخذ وأعطى، فجمع بين النفع الذاتي والنفع العام.
ثانياً: الأجادب.. الحافظ الناقل:
«وَكَانَتْ
مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ،
فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا»؛ الأجادب هي الأرض الصلبة التي لا تستنبت، شبه
بها القلب الذي يحفظ العلم ويستوعبه، لكنه قد لا يُعمله في نفسه بالدرجة الكاملة،
أو لا يظهر عليه أثر العمل كما في الأرض النقية، ومع ذلك فهو كوعاء العلم الذي
يُنقل منه للناس، هو الناقل والحافظ الذي ينتفع به غيره، فيرتوي الناس بعلمه، هذا
الصنف ينفع غيره، لكنه لا يحقق الثمرة الذاتية الظاهرة كالأرض المنبتة.
3- القيعان.. المُعرِض الخاسر:
«وَأَصَابَتْ
مِنْهَا طائفة أخرى، إنما هي قيعان لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً»؛
هذا هو الصنف المحروم؛ فالقيعان الأرض المستوية الرخوة، التي لا تقبل الماء ولا
تحفظه ولا تُنبت منه شيئًا، مثلها هذا القلب لم يقبل الهدى، ولم يستفد به، ولم
ينقل منه فائدة للناس، إنه مثل من «لم يرفع بذلك رأسًا»، وهي كناية بليغة عن
الإعراض التام والاستكبار واللامبالاة بالدعوة.
جماليات البيان النبوي
اعتمد الحديث
على جماليات لغوية عميقة لتعزيز المعنى، تتمثل فيما يلي:
- اختيار
المفردات: استخدم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة «الغيث» بدلاً من «المطر»؛ لما
تحمله من دلالة على الرحمة والخير والإغاثة عند الحاجة.
- الإيجاز
والكناية: عبارة «لم يرفع بذلك رأسًاً» إيجاز معجز؛ حيث اختصرت معاني الرفض
والاستكبار وعدم المبالاة في جملة قصيرة واحدة، وهو ما يُعرف بالكناية عن الصفة؛
وهي الإعراض والتولي.
- الطباق
والتوازن: استخدم الحديث توازنًا لفظيًا وبلاغيًا باستخدام الطباق بين الحالات
المتناقضة: (قبلت الماء/ لا تمسك ماء)، (فأنبتت/ لا تنبت)؛ لترسخ في الذهن صورة
التباين الواضح بين أهل الهدى والمعرضين عنه.
في الختام،
يُثبت هذا الحديث أن جوهر الرسالة النبوية واحد، لكن سِر تباين النتائج يكمن في
مدى استعداد القلوب لاستقبال «غيث النبوة».
إنه دعوة
للتأمل: أي الأصناف نحن؟ هل نحن أرض طيبة منتفعة ونافعة، أم أرض أجادب نافعة
لغيرنا، أم قيعان محرومة؟
اقرأ
أيضاً:
- الغثائية والوهن.. التشخيص النبوي لاستضعاف الأمة واستباحتها
- الرابط الإيماني والاجتماعيين شكر الله وشكر الناس