القانون الدولي الإنساني في ساحة المعركة.. الاحتلال والمقاومة تحت المجهر

مع إعلان اتفاقية وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين الاحتلال الصهيوني وفصائل المقاومة، كشفت الوقائع عن مستوى غير مسبوق من التوحش الذي مارسه الاحتلال الصهيوني، متجاوزًا كل الأعراف والمواثيق الدولية، وضاربًا بعرض الحائط المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، هذه الحرب لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لمدى التزام الأطراف المتحاربة بالقوانين التي تدّعي الدول الكبرى أنها الضامن الأساسي لحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
على مدار 471 يومًا، تابعتُ هذه الحرب عن كثب، ولكن ليس بعين المشاهد العادي، بل بعين الباحث الذي يقارن بين المبادئ القانونية التي درستها خلال مرحلة الدكتوراه، وبين الواقع الذي تنقله الشاشات لحظة بلحظة، والنتيجة كانت واضحة: الاحتلال الإسرائيلي يتصرف ككيان فوق القانون، في حين أظهرت فصائل المقاومة التزامًا غير متوقع بالمعايير الإنسانية، رغم عدم توقيعها على اتفاقيات جنيف أصلا.
استهداف المستشفيات والمراكز الطبية.. انتهاك صارخ للقانون الدولي
تنص المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة بوضوح على أنه:
"لا يجوز الهجوم على المستشفيات المدنية التي تنشأ لتوفير الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء في النفاس، أو قصفها، بل يجب احترامها وحمايتها في جميع الأوقات".
ومع ذلك، ارتكب الاحتلال الصهيوني واحدة من أبشع الجرائم عندما قصف مستشفى كمال عدوان في 3 ديسمبر 2023، موقعًا إصابات بين الطواقم الطبية، ثم عاد ليقصفه مرة أخرى في 4 ديسمبر. ولم يكتفِ بذلك، بل بلغت الجريمة ذروتها في 27 ديسمبر 2024 عندما قام الاحتلال بإحراق المستشفى بالكامل.
هذه الانتهاكات لم تكن حالات فردية، بل جزءًا من استراتيجية ممنهجة، إذ كشفت منظمة الصحة العالمية أن الاحتلال قصف أكثر من 15 مستشفى خلال الحرب، من بينها مستشفى الشفاء، الذي تعرض لهجوم مباشر في نوفمبر 2023.
في المقابل، ورغم القصف المتواصل، لم تستهدف المقاومة أي مستشفى، حتى العسكري منها، ولم تلجأ إلى استخدام المرافق الطبية كأدوات حرب، مما يعكس احترامها الفعلي للقانون الدولي الإنساني.
استهداف سيارات الإسعاف.. جريمة موثقة
لم يقتصر عدوان الاحتلال على المستشفيات، بل امتد ليشمل سيارات الإسعاف، وهي جريمة أخرى وثّقتها المنظمات الحقوقية.
ففي 3 نوفمبر 2023، استهدفت طائرات الاحتلال سيارة إسعاف أمام مستشفى الشفاء، ما أسفر عن استشهاد 13 شخصًا، بينهم مرضى كانوا في طريقهم لتلقي العلاج.
وقد نصّت المادة 22 من اتفاقية جنيف الرابعة على:
"يجب احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء النفاس التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى، أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل، وذلك على قدم المساواة مع المستشفيات المشار إليها في المادة 18".
لكن الاحتلال لم يكتفِ بالقصف، بل وثّقت منظمة العفو الدولية حالات استهدف فيها الجنود سيارات الإسعاف عبر إطلاق النار على المسعفين أثناء محاولتهم إنقاذ الجرحى، وهو سلوك لا يمكن وصفه إلا بأنه جريمة حرب متعمدة.
معاملة الأسرى.. مقارنة صارخة بين الاحتلال والمقاومة
ملف الأسرى هو أحد أبرز جوانب هذه الحرب التي كشفت مدى التباين بين ممارسات الاحتلال وممارسات المقاومة، فبينما تعرض الأسرى الفلسطينيون لأبشع أنواع التعذيب، ظهر الأسرى الصهاينة الذين احتجزتهم المقاومة في غزة بصحة جيدة، يشكرون خاطفيهم على حسن المعاملة.
تنص المادة 26 من اتفاقية جنيف الثالثة على أنه:
"يجب أن تكون الوجبات الغذائية اليومية المقدمة لأسرى الحرب كافية من حيث الكمية والنوعية لتكفل المحافظة على صحتهم في حالة جيدة، ولا تعرضهم لنقص الوزن أو اضطرابات العوز الغذائي".
إلا إن الاحتلال الصهيوني مارس سياسات ممنهجة لتجويع الأسرى الفلسطينيين، بل إن بعضهم خرج من السجون وهو في حالة صحية متدهورة استدعت نقله إلى المستشفى فور الإفراج عنه، في المقابل أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الأسرى الصهاينة الذين أفرجت عنهم المقاومة لم يتعرضوا لأي انتهاكات صحية أو بدنية خلال احتجازهم.
كما تنص المادة 32 من اتفاقية جنيف الرابعة أنه:
"تحظر الأطراف السامية المتعاقدة جميع التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين الموجودين تحت سلطتها"
لكن الاحتلال الصهيوني لم يلتزم بهذا الحظر، إذ تشير الإحصائيات إلى أن 292 أسيرًا فلسطينيًا استشهدوا داخل السجون الصهيونية منذ عام 1967 وحتى فبراير 2025، بينهم 53 شهيدًا لا تزال سلطات الاحتلال تحتجز جثامينهم، رافضةً تسليمها لذويهم.
ازدواجية المعايير الدولية ومسؤولية الدول الكبرى
إن ما كشفته هذه الحرب لا يقتصر على الانتهاكات الصهيونية، بل يمتد ليشمل ازدواجية المعايير التي تنتهجها الدول الكبرى في تطبيق القانون الدولي. فبينما يتم تفعيل المحاكم الدولية فور وقوع أي انتهاك في دول العالم الثالث، نجد أن الجرائم التي ارتكبها الاحتلال لا تلقى سوى بيانات شجب شكلية، دون أي تحرك قانوني جاد.
يفترض أن تكون القوانين الدولية ملزمة للجميع، بغض النظر عن العرق أو الدين أو التحالفات السياسية.
ولكن الحقيقة المرة أن هذه القوانين أصبحت رهينة المصالح، وهو ما أضعف مصداقية النظام الدولي برمته.
لقد علمنا الإسلام أن العدل لا يُطبق بانتقائية، بل يجب أن يكون ميزانًا يستوي فيه القوي والضعيف، يقول سيدنا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: "أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه".
واليوم، يقف النظام الدولي على مفترق طرق: فإما أن ينحاز لمبادئ العدالة والإنسانية التي يدّعيها، أو يستمر في تبرير جرائم الاحتلال، مما سيؤدي حتمًا إلى فقدان ثقة الشعوب الحرة في هذه المنظومة المختلة.
الخاتمة: دعوة للتحرك
إن الصمت على جرائم الاحتلال هو شراكة غير مباشرة في استمرارها، والمجتمع الدولي مطالب اليوم باتخاذ خطوات ملموسة لتفعيل القانون الدولي ضد الاحتلال، وعدم السماح له بالإفلات من العقاب.
ومن هنا، فإن المطلوب:
- تقديم قادة الاحتلال للمحكمة الجنائية الدولية على جرائم الحرب التي ارتكبوها.
- تعزيز حملات المقاطعة الدولية اقتصاديًا وسياسيًا لإجبار الاحتلال على الامتثال للقانون.
- فضح ازدواجية المعايير الدولية من خلال الضغط الشعبي والإعلامي على الحكومات والمنظمات الدولية.
فالقانون الدولي وُجد لتحقيق العدالة، لا لحماية الظالم على حساب الضحية، وإذا لم يتم تطبيقه بعد هذه الحرب، فمتى سيتم ذلك؟