21 فبراير 2025

|

ما أشرف الحِلم!

كاتب المدونة: محمد ذيشان أحمد القاسمي (*) 

 

إن الأخلاق الحسنة، والشيم الحميدة، والخصائل الكريمة مما اجتمع العقل والنقل على فضلها وحبها، وكما لا يخفى أنها كثيرة ومتنوعة، والذي نقصده من بينها في هذا المقام، هو خُلق «الحِلم»؛ بمعنى الأناة وضبط النفس، وهو من إحدى الصفتين والخصلتين التي يحبهما الله؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم لِأَشَجِّ عبدِ القيسِ: «إِنَّ فِيكَ خُلَّتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمَ، وَالأَنَاةَ»(1). 

وصفُ الحِلم عُدَّ من أهم مكارم الأخلاق، ويعتبر من أفضل القيم الأخلاقية، يقول الحسن بن رجاء: 

أحب مكارم الأخلاق جهدي          وأكره أن أعيب وأن أعابا

وأصفح عن سباب الناس حلماً        وشر الناس من يهوى السبابا(2) 

الحِلم على ما هو عليه من فضائل ومحاسن غير أنه قد يشق على النفس البشرية اختياره، ويصعب على الإنسان التحلّي به، والاتصاف به امتحان عسير قلّ أن تجد فيه الناجحين، فلله درّ مهيار الديلمي إذا يقول:

ما أشرفَ الحِلمَ لولا ثِقلُ محمِلِهِ        وأجملَ الصمتَ لولا قولُهم حَصَـرُ(3)

والحديث بالحديث يذكر أن كل ما يكون شأنه عظيم ففيه مشقة للنفس الإنسانية، سواء كان من العبادات أو المعاملات والأخلاق، فيها شدة ومشقة، وهذه المشقة لا يتكلفها إلا من شرف طبعه، وتلك الشدة لا يتحملها إلا من وطّن على المكاره نفسه، يقول أبو الطيب المتنبي: 

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ         الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ(4) 

قد نتساءل: لِم يكون التخلّق بالحلم صعباً؟ والجواب أن فيه محاربة للنفس ومخالفة للغضب؛ لأن الحِلم موعده عند الغضب، وقلّ مَن يملك نفسه عند الغضب، فقال مسكين الدارمي: 

ليست الأَحلام في حال الرضا        إِنَّما الأَحلام في حالِ الغضب(5)

وأيضاً قد تكون صعوبته لِما قد يجد المرء في نفسه ذُلًّا عند الحِلم أو التحلّم، فيقول الخزيمي: 

أَرى الحِلمَ في بَعض المَواطِن ذِلَّةً         وَفي بَعضها عزّا يُسوَّد صاحِبُه(6)

ومن لم يجبل على الحِلم، ولم يكن هذا الوصف الكريم طبعاً فيه، فماذا عليه؟ الجواب: عليه أن يتكلّف هذا الوصف، ويتخلق به، ويدرّب نفسه عليه، حتى يكون سليقة له، وطبعاً فيه، فقد قيل: إنما العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلّم، وفي هذا يقول حاتم الطائي: 

تَحَمَّل عَنِ الأَدنَينَ وَاِستَبقِ وُدَّهُم       وَلَن تَستَطيعَ الحِلمَ حَتّى تَحَلَّما(7) 

أي: استعمل الحلم، واحمل نفسك عليه حتى تتخلق به، ويصير خلقاً وعادة وسمة لك؛ فإنك لن تستطيع الحلم حتى تتكلفه وتخالف طباعك التي تحملك على الغضب. 

وكذا يجد السبيل إليه من قرأ في قصص ممن أشهر بهذا الوصف الكريم، والخلق النبيل، فقد قيل حقاً: اقتد بالنجومِ وطَأْ مواطئهم تهتد!

فإذا قلبنا أوراق التاريخ بحثاً عمن كان على القمّة العلياء بهذا الوصف النبيل، وتربّع على عرشه، نجد نبيَّنا وشفيعنا وقائدنا وقدوتنا محمداً بن عبدالله عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأتم التسليم أولهم وأولاهم؛ فإن حياته صلى الله عليه وسلم مليئة بمواقفه العظيمة التي عنوانها الحِلم بأصدق صوره، وأروع مظاهره، فحِلْمه وأَنَاته على من جهل عليه لا ولن نجد له مثيلاً في التاريخ الإنساني، بل لن يأتي الإنس والجن بمثله ولو كان بعضهم لبعضهم ظهيراً.

وكذا ممن عرف بهذا الوصف، أحنف بن قيس، حتى إنه لُقِّب بـ«حليم العرب»، أو «أحلم العرب»، فما إن ذُكر الحِلم حتى يتبادر الذهن إليه، ويُضرب به المثل في الحِلم، قال أبو تمّام في بيته السائر: 

إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ        في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاس(8)

ولا يعزبنّ عن بال أحد اسم مَن كان للحِلم عنوان جليّ وعليه عَلَم بارز، فهو إمامنا الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت 150هـ)، حتى لو قلنا لصفة الحِلم تجسّدي، لكان أبو حنيفة؛ فإن سيرته العطرة حيث نجد فيها العلم، والفقه، والعبادة، والعمل، نجد فيها مكارم الأخلاق، والخصال الحميدة، ولا سيّما الحلم، حتى قال عنه عبدالله بن المبارك: ما رأيت أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة(9).

وممن اشتهر بالحِلْم وكان مضربًا للمثل في حِلْمه في عصره قيس بن عاصم؛ فكان حليمًا يقتدى به؛ فقد قيل للأحنف: ممن تعلمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم(10).

 

 

 

 

___________________

(1) أخرجه أبو داود (5225)، الموسوعة الحديثية.

(2) السلافة من روائع الشعر وبدائعه (96)، دار الظاهرية.

(3) ديوان مهيار الديلمي (1/ 378)، مطبعة دار الكتب المصرية.

(4) ديوان المتنبي (490) دار صادر.

(5) السلافة من روائع الشعر وبدائعه (95)، دار الظاهرية.

(6) المرجع السابق.

(7) شرح أدب الكاتب للجواليقي (234)، المكتبة الشاملة.

(8) العمدة في محاسن الشعر ونقده (1/ 192) المكتبة الشاملة.

(9) مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، ص 18، لجنة إحياء المعارف النعمانية، حيدر آباد.

(10) تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ص59، المكتبة الإسلامية.

(*) أستاذ العلوم الشرعية واللغة العربية بمدرسة إمداد العلوم حيدر آباد- الهند.


تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة