12 فبراير 2025

|

التدبر.. حين ترى القرآن جديدًا في كل مرة تقرؤه

محمد الحداد

12 فبراير 2025

402

تفصلنا أيام معدودة عن شهر القرآن، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ} (البقرة:١٨٥)، وفي سيرة النبي ﷺ أنه: "كانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ" (متفق عليه)، فدل ذلك على خصوصية دراسة القرآن في رمضان واستحبابه، والإكثار من تلاوته، وعَرْض المرء له على من هو أحفظ منه، والاجتماع على ذلك، ومن أخص تلك المهام مقصد جليل من مقاصد نزول القرآن؛ وهو تدبره.

 

معنى التدبر والحث عليه

التدبر في اللغة: هو التأمل والتفكر على مَهَل والنظر في العاقبة، وتدبر القرآن: هو شغل القلب بطول التأمل في آياته وجمع الفكر على تعقُّله والنظر فيه لحفظه علمًا واتخاذه عملًا.

وقد ورد ذكر التدبر في القرآن الكريم في أربعة مواضع؛ أولها قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82)، وفيه أن القرآن مستحق للتدبر؛ فإن أدلة ثبوت كونه من عند الله قائمة، وآية ذلك أن ليس بين آياته اختلاف، بخلاف غيره من كُتبٍ حُرِّفت فتناقضت وكثر فيها الاختلاف، والثانية قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلْأَوَّلِينَ} (المؤمنون:٦٨)، وفيه أن ليس ثمة ما يمنع من تدبر القرآن؛ لأنه رسالة عظيمة لا مثل لها فتُعدل به، والثالثة قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29)، وفيه أن مقصد نزول القرآن تدبر آياته والتفكر فيه، وذاك العقل؛ لا إهماله والإعراض عنه، والرابعة قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (محمد:24)، وفيه أن المانع من تدبر القرآن هو فساد المحل؛ وهو القلب، فإن كان المحل قابلًا عمل التدبر عمله، وإن لا فلا.

وفي الآيات بيان لعظمة تدبر القرآن كمقصد جليل لإنزاله، وأن التدبر درجة أعلى من مجرد معرفة المعنى الظاهر الذي يدركه كل الناس؛ فهو قدر ينفذ فيه العلم بالقرآن إلى القلب مباشرة، فينعم بجماله ويلتذ بحلاوته ويعايش آياته كأنها رأيا عين.

 

المعين على التدبر 

وفي ضوء مشروعية التدبر نستطيع أن نصنف المعينات عليه في قسمين؛ إيمانية، ومعرفية.

أما الإيمانية -وهي الأصل-: فمنها نقاء القلب؛ فلو طهر القلب ما شبع من كلام الرب، ولا قنع بما فتح الله له من علوم كتابه ولطلب المزيد، وصاحب هذا القلب هو المنتفع بالقرآن، {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، ومنها الفرح بالقرآن والاستبشار به؛ فذلك حال أهل الإيمان، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:١٢٤)، ومنها نية العمل؛ فإن المصطفين من عباد الله قد اتخذوا القرآن عملًا، فلم يعتبروا مجرد القراءة كافية؛ بل أخذوا بحق التلاوة، {ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَتْلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (البقرة:١٢١)، ومنها طلب حياة القلب بالقرآن، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ () اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الحديد:16-١٧) وغير ذلك كثير.

وأما المعرفية: فمنها التعرض لمدح الله عز وجل لقوم يعقلون ويتفكرون ويتذكرون ويعلمون ولأولي الألباب ولأولي النهى؛ فبتدبر القرآن يحصل كمال العقل، ومنها أن هذا القرآن لا تنقضي عجائبه ولا تنفد أسراره، {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (الكهف:١٠٩)، ومهما ازداد المرء من العلم به فلن يبلغ المنتهى؛ حتى أن الله عز وجل قد أمر نبيه ﷺ بطلب الزيادة من علمه، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه:114)، وغير ذلك كثير.

 

تجديد النظر في تدبر القرآن 

ولما سبق؛ فلنذكر أربع وِجهات تجديدية تعرضت لإمعان النظر في تدبر القرآن ليستلهم فوائدها المقبل على رمضان فيقرأ فيه القرآن كل مرة وكأنه أول مرة.

 

نظم القرآن 

وهو تلمُّس الوجه الأعظم من وجوه إعجاز القرآن بمعرفة بلاغة تركيبه وفصاحة ألفاظه وتأثيره العجيب في القلوب، ويُدرَك بذلك وحده -ولو لم ينضم إليه وجوه أخرى من الإعجاز- أن هذا القرآن كلام الله عز وجل، وهو أول الوِجهات من حيث قِدم التصنيف فيه فظهرت أولى مصنفاته في القرن الثالث الهجري، وليطالَع فيه كمثال: دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وإعجاز القرآن للباقلاني، وبيان إعجاز القرآن للخطابي، والبديع لعبد الله بن المعتز.

 

التفسير الموضوعي 

وهو وجهة تدبر معاني آيات القرآن من خلال ضم الآيات في الموضوع الواحد إلى بعضها ليُفهِم بعضها بعضًا وتتوارد بذلك أسباب تدبره، وهو آخر الوِجهات الأربع حداثةً في التصنيف فيه، فلم يظهر سوى في القرن الرابع عشر الهجري، وليطالَع فيه كمثال لمن أراد البسط: موسوعة التفسير الموضوعي لنخبة من العلماء، وتيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن للسعدي لمن أراد الاختصار.

 

علم المناسبات 

وهو علم جليل يبحث التناسب في القرآن في أمور عدة، كالتناسب بين السورة واسمها، وبين بداية السورة ونهايتها، وبين الآيات في السورة الواحدة، وبين السورة والسورة التي تليها، ومن ثمراته معرفة الحكمة من وراء ذلك، والتماس المعاني الكامنة التي لا يُتوصل إليها إلا بمعرفة هذه المناسبات، وليطالَع فيه كمثال: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، وقطف الأزهار في كشف الأسرار للسيوطي.

 

نظام القرآن 

وهو أدق من المناسبات باعتبار فتحه لآفاق من التدبر أعظم، وأعم منها باعتبارها جزءًا من النظام، والذي يشمل وحدة جميع القرآن ووحدة كل من سورة مستقلة طالت أو قصرت، فيتناول النظام العلاقة بين كل سورة وما قبلها وما بعدها وكذلك العلاقة بين الآيات بداخلها، ويتعامل مع كل سورة على أن لها موضوعًا واحدًا جامعًا تندرج تحته جميع ما يأتي فيها من موضوعات أخرى، وهذا هو المنهاج الأقوم لتدبر القرآن، والذي تُفتح به كنوزه وتُبرز به جواهره، وليطالَع فيه: نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان لحميد الدين الفراهي، وسائر كتبه في الموضوع.

 

وإنا بين يدي رمضان؛ فلنجعله خيرًا من كل رمضان سبقه بالحرص على تدبر القرآن وإصلاح النفس به؛ فهذا مقدمة لكل إصلاح في واقع المسلمين.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة