أخلاق القرآن.. بين التعليم النظري والنموذج العملي

القرآن الكريم المصدر الأساسي للقيم والأخلاق في الإسلام، حيث يقدم منهجاً متكاملاً لصلاح الفرد والمجتمع، غير أن الالتزام بأخلاق القرآن لا يقتصر على حفظ آياته وفهم معانيها -كما يتصور البعض- بل أساسه تطبيقها في الحياة اليومية، وهنا تظهر الفجوة المتوهمة عند كثيرين بين التعليم النظري وتحقيق النموذج العملي، فالتخلق بأخلاق القرآن يتطلب تناغماً بين المعرفة والتطبيق، والذي سنحاول معالجته في هذا المقال.
الخصائص النظرية لأخلاق القرآن الكريم
دعا القرآن لطلب العلم في أيما موضع فيه، وجعله الباعث الأول للعمل، بل وحدد مصدر المعرفة النظري؛ وهو ذات الوحي المنزَّل، ومن أبرز ما يجب تعلمه عن خصائص النظرية للأخلاق في الوحي قرآنًا وسُنةً ما يلي:
1- الفطرة الإنسانية: فقد بينت الشريعة أن الإنسان يولد على الفطرة، وقد أُلهم طريق الخير وطريق الفجور، كما جاء في قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس: 8)، فهو سائر نحو جبلته قبل أن تؤثر عليه البيئة المحيطة.
2- الآثار البيئية: تبين الشريعة خطورة البيئة التي يُربى فيها الفرد وقدرتها على تثبيت ما في فطرته أو طمسها وتشويهها، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مولودٍ إلَّا يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه»(1)، ولم يقل: «يؤسلمانه»؛ لأن أصل الفطرة يقود للإسلام وما فيه من خلق كريم ضرورةً، فصون الفطرة سبب في استجابة النفس لداعي الأخلاق وتطبيق ما تحث عليه.
3- دور المصلحين وضبطهم المعايير في المجتمع: يوضح القرآن دور الأنبياء والمصلحين في إصلاح ما أفسدته البيئة وإعادة الناس إلى فطرتهم السليمة، وضبط المعايير الأخلاقية التي يتحاكمون إليها؛ ما يضبط إيقاع الفرد والمجتمع ويحرره من السقوط في براثن الأهواء، ويوجهه لسلوك أفضل الأخلاق، وقد جاء في القرآن على لسان العبد الصالح قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77).
4- تثبيت المسؤولية الفردية: فجعل القرآنُ الفردَ مسؤولًا عن أفعاله واختياراته، فإنه محاسب عنها يوم القيامة، يقول الله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى) (النجم)، وكذلك فهو متحمل عاقبة أفعاله مجتمعياً، ورتبت الشريعة على ذلك العقوبات؛ مثل القصاص والحدود والتعزيرات وغيرها.
5- التلازم بين الاعتقاد والعمل: فدائماً ما يربط الوحي بين الاعتقاد والعمل، قال الله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3)، وكثرة تكرار ذكر الإيمان والعمل الصالح في القرآن يُفهم تلازمهما؛ وهذا مقدمة لكل تلازم بين الظاهر والباطن ومنه الأخلاق النظرية والعملية.
النموذج العملي في تطبيق الأخلاق القرآنية
لم تكتف الشريعة ببيان الأخلاق نظرياً؛ بل جعلتها متجسدة عملياً في نموذج، وهو شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: «كان خُلُقُه القُرآنَ»(2)، فبمقدار قرب العبد من هذا النموذج العملي، يصدق برهانه على صدق الالتزام بالقيم الإسلامية.
ومن أمثلة هذه الأخلاق القرآنية التي تمثلت في فعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يلي:
- الصدق: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، وقد شهد له أعداؤه بذلك قبل أحبابه.
- العدل: قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدل في كل شيء؛ بين زوجاته، وأصحابه، بل ومع أعدائه.
- العفو والصفح: قال الله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 22)، وتمتلئ السيرة بمواقف يقابلها النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، ومن أعظمها وأشهرها عفوه عند فتح مكة عمن ناصبه العداء فحاول قتله وأخرجه من بلده وأصاب من أهله وأصحابه.
ومثل ذلك كثير من الأخلاق الكريمة التي تجسدت واقعياً في سير الأنبياء والصالحين ممن أمر القرآن بالاقتداء بهم؛ ما يجعل تصور المسلم عن الأخلاق ليس مجرد تصور نظري مجرد، بل واقع عملي مطبق ومجرب في النفس، وأيضًا في المجتمع الذي قام على أساسها في عهود الأنبياء والراشدين السائرين على طريقهم.
سبيل تطبيق الأخلاق القرآنية
وفي طريق التطبيق العملي لأخلاق القرآن فلا بد أن يكون الوعي الجمعي لأفراد المجتمع متبنيًا لتلك القيم، ومن وسائل تحقيق ذلك: الاهتمام بالتربية الأسرية؛ بأن يكون للوالدين الدور الأبرز في تنشئة أبنائهما على التحلي بأخلاق القرآن، وكذلك اتخاذ القدوات الحسنة؛ من خلال إبراز نماذج واقعية تتحلى بأخلاق القرآن قديمًا أو حديثًا، مثل سِيَر الأنبياء والصالحين من السلف والمعاصرين، وقراءة كتبهم واستلهام العبرات من قصصهم، وكذلك التوعية بأهمية فهم العبد لنفسه ومراجعتها ومحاسبتها دائمًا؛ فهذا مما يظهر التمسك الحقيقي بأخلاق القرآن.
___________________
(1) صحيح البخاري (1358).
(2) رواه أحمد (25813)، وصححه الألباني.