قواعد عسكرية تركية في سورية.. الفرص والانعكاسات

كانت تركيا في مقدمة الأطراف الخارجية الرابحة من تغير النظام في سورية، وتتقدم مكاسبها الآنية المباشرة وجود نظام جديد ينظر للعلاقات معها بإيجابية، ويريد لها مكانة مميزة بعد نظام بشار الأسد الذي كان يناصبها العداء ويماطل في تطبيع العلاقات معها، وتطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، وعودة سورية لتكون بوابة العالم العربي للتجارة البرية التركية، فضلاً عن دور متقدم متوقع لأنقرة في إعادة الإعمار في سورية، والعودة المرتقبة للسوريين المقيمين في تركيا.
بيد أن المكاسب الأكثر أهمية هي ذات الطابع الإستراتيجي والمرتبطة بالأمن القومي والمسارات طويلة الأمد، وفي مقدمة هذه المكاسب شرعنة الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية، ووحدة الموقف مع الرئاسة السورية حول وحدة الأراضي السورية ورفض سيناريوهات التقسيم والفدرالية، وانعكاس الاستقرار في سورية على الأمن القومي التركي، وضعف موقف قوات سورية الديمقراطية (قسد) وبالتبعية العمال الكردستاني، والدور المحتمل لأنقرة في إعادة بناء وتطوير المؤسسات السورية وخصوصاً العسكرية والأمنية، واحتمال ترسيم الحدود البحرية، وأخيراً وليس آخراً ومن ضمن الأهم احتمال إنشاء قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية.
تحدثت عدة تقارير إعلامية عن احتمال اتفاق أنقرة مع دمشق على إنشاء قواعد عسكرية على الأراضي السورية، وهو ما لم تنفه بل عضدته تصريحات بعض المسؤولين الأتراك، بل وتجاوزت بعض التقارير ذلك لتحديد أماكن القواعد المقترحة؛ ما يشير إلى وجود نية أو حوار بين الجانبين بهذا الخصوص، كما أن السياق الجيوسياسي والتهديدات المستجدة على سورية والعلاقات المتنامية بين الجانبين تجعل خياراً من هذا النوع مرجحاً وليس فقط محتملاً.
أهم المكاسب الإستراتيجية المرتبطة بالأمن القومي شرعنة الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية
من شأن خطوة من هذا القبيل أن تعمّق العلاقات بين الدولتين الجارتين على المستويات القريبة والمتوسطة والبعيدة على حد سواء، وأن تصل لدرجة الربط المصيري بينهما بسياق لم يكن معهوداً سابقاً حتى في أفضل مراحل العلاقات بين البلدين سابقاً.
كانت تركيا ضمن الدول القليلة الداعمة للثورة السورية وفصائلها السياسية والعسكرية لسنوات طويلة، وكان لوجودها في الشمال السورية دور محوري في الإبقاء على إدلب كمنطقة بعيدة عن سيطرة النظام وعصية على الإنهاء.
ومع عملية «ردع العدوان»، قدمت أنقرة غطاء سياسياً ودعماً غير مسبوق بقيادة مساع دبلوماسية لإقناع كل من روسيا وإيران بعدم التدخل لدعم نظام الأسد وحض باقي الأطراف الإقليمية والدولية على دعم المرحلة الجديدة في سورية بعد هرب الأسد، كما أن التصريحات الرسمية الصادرة عن الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع أكدت العلاقات الخاصة مع أنقرة التي شكر لها «وقفتها التاريخية» مع الشعب السوري في ثورته.
إن بناء قواعد عسكرية لتركيا على الأراضي السورية يجعل العلاقات بين البلدين أكثر من إيجابية ومتميزة، ويصل بها حدود التحالف، بل يمكن القول: إن تركيا ستكون الدولة الحامية لسورية الجديدة والضامنة لها إقليمياً ودولياً، بشكل غير معلن وغير رسمي طبعاً، خصوصاً وأن هناك حديثاً متكرراً عن السماح لتركيا باستخدام الأجواء السورية؛ ما يجعل أي عمل عسكري ضد الدولة السورية في المرحلة المقبلة يصطدم بالوجود التركي العسكري المباشر على الأرض، ما يفرض إعادة الحسابات أو التنسيق أو الإخبار بالحد الأدنى قبل أي خطوة من هذا القبيل.
كما يعني ذلك أن الكيان الصهيوني بات يملك عملياً –وليس رسمياً– حدوداً مشتركة مع تركيا، من زاوية الحدود المفترضة المرنة، بعد أن كان نظام الأسد حاجزاً بينهما، يدفعنا ذلك للتذكير بالتعارض الكبير في المصالح بين تركيا والكيان في سورية بعد سقوط النظام، إذ تدعم تركيا القيادة الجديدة وتريد استقرار الأوضاع في سورية ووحدة أراضيها، وترى في قوات سورية الديمقراطية خطراً على أمنها القومي، بينما يحرض الاحتلال على القيادة الجديدة واصماً إياها بالإرهاب، ويشكل اليوم الخطر الأكبر على استقرار سورية ويتحدث عن «قسد» كحليف طبيعي يتواصل معه لمواجهة تركيا نفسها.
وجود قواعد عسكرية تركية بسورية يعني حماية ضمنية لدمشق من التهديدات «الإسرائيلية»
أكثر من ذلك، فبعد سنوات من إضافة الكيان لتركيا على قائمة المهددات له، وفق تصنيف مؤسساته الأمنية والعسكرية، أوصت لجنة «ناجل» حكومة الاحتلال بالاستعداد لإمكانية المواجهة العسكرية مع تركيا بعد سنوات، لا يعني ذلك أن مواجهة من هذا النوع عالية الاحتمال اليوم أو ستحصل قريباً جداً، لكن مجرد وضع الاحتلال الأمر ضمن الاحتمالات الممكنة يشير لمدى التغير في الأوضاع الجيوسياسية ومنظومات التحالف والتعاون والتهديد في المنطقة؛ وبالتالي فإن وجود قواعد عسكرية تركية على الأراضي السورية يعني حماية ضمنية لسورية من التهديدات «الإسرائيلية».
وإن إنشاء القواعد يساهم في تقوية الموقف التركي ومعه القيادة السورية الجديدة، وإضعاف موقف العمال الكردستاني فيما يتعلق بملف «قسد»، الذي تدور حوله مفاوضات بين دمشق وقيادة «قسد» حتى اللحظة دون مخرجات واضحة أو حاسمة، ما يبقي تلويح أنقرة بعملية عسكرية ضدها ضمن الاحتمالات القائمة.
الوضع إقليمياً
إقليمياً، تقلب فكرة القواعد العسكرية التركية على الأراضي السورية معادلات التنافس الإقليمي في سورية والمنطقة رأساً على عقب، وترسخ المكاسب التركية المذكورة وغيرها وتمنحها صفة الديمومة.
على مدى سنوات طويلة، كانت روسيا المتحكم الأكبر في الملف السوري في المساحات التي تركتها الولايات المتحدة المستأثرة بمناطق شرق نهر الفرات، وكانت تركيا لسنوات طويلة في موقف دفاعي في سورية، بعد أن تقلصت مناطق خفض التصعيد من أربع لواحدة، وفككت أنقرة بعض نقاط مراقبتها في الشمال السوري، وفق اتفاق سوتشي، بعد محاصرة قوات النظام لها.
اليوم، يمكن أن يتوج متغير من هذا النوع، حال حدوثه، المكاسب التركية المذكورة ليمنحها ما هو أكثر من النفوذ الروسي السابق، بعد انكفاء موسكو نحو قواعدها العسكرية (التي لم يحسم مصيرها بعد) وخرجت إيران بشكل شبه كامل من الملف السوري.
أنقرة تعي التحديات والأخطار المحتملة لذلك تصوغ سياساتها بخصوص سورية بكثير من الحذر والهدوء
كما سيكون لذلك تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على حالة التنافس الإقليمي والمعادلات الجيوسياسية في المنطقة في عدة قضايا وصراعات وملفات بشكل يقوي الموقف التركي، من البحر الأسود لليبيا، ومن العراق للبنان، ومن جنوب البلقان للقوقاز.
وإضافة إلى ما سبق تفصيله عن الكيان الصهيوني، فإن ذلك سيعزز أوراق القوة التركية في وجه المطامع اليونانية في شرق المتوسط وجزر بحر إيجه، لا سيما إذا ما أضيف لذلك فكرة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسورية، وهي فكرة مطروحة على الطاولة وترغبها أنقرة بشدة.
وأخيراً، فإن كل ما سبق من مكاسب متحصلة أو متوقعة في المستقبل، ليست بلا أخطار أو تحديات بالنسبة لتركيا كما سورية، إن كان من قبل الأطراف المتضررة من الحالة الجديدة في سورية ودعم أنقرة لها، أو بسبب تعثر الأوضاع وتراجع الاستقرار في سورية في حال حدث، تلقائياً أو بفعل تدخل خارجي، ولعل أنقرة تعي هذه التحديات والأخطار المحتملة؛ ولذلك تصوغ سياساتها بخصوص سورية بكثير من الحذر والهدوء في الفترة الحالية، وتؤكد طمأنة مختلف الأطراف على عدم استئثارها أو تفردها في سورية وعلى مراعاة مصالح الجميع.