الإصرار على تهجير غزة.. هل يدفع بالقضية إلى نهايات الطرق؟
في لقائهما، الإثنين 4 أبريل الجاري، بدا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب
مصرًّا على خطته بشأن تهجير أهل غزة، بل وجّه اللوم لضيفه رئيس وزراء الكيان
الصهيوني بنيامين نتنياهو على تركهم غزة من قبل، متسائلاً: لماذا تخلت «إسرائيل»
عن غزة أصلاً؟!
ترمب وصف قطاع غزة بأنه أرض ذات أهمية كبيرة، ووعد بأن أحدًا لن يُقتل في
هذه المنطقة، لكن بعد ترحيل أهلها! فقال: إذا أخذتَ الشعب الفلسطيني، ونقلته إلى
دول مختلفة، وهناك الكثير من الدول التي ستفعل ذلك، فستحصل على منطقة حرية حقيقية،
سمّها منطقة الحرية، منطقة حرة، منطقة لن يُقتل فيها الناس كل يوم.
وحين سُئل عن وعده الانتخابي بإنهاء الحرب، قال ترمب: أتمنى أن تتوقف
الحرب، وأعتقد أن ذلك سيحدث في وقت ليس ببعيد.
لاحقًا، وبفاصل يومين فقط، وقبيل بدء جولته بعدد من الدول الإسلامية، أعرب
الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو عن استعداد بلاده لتوفير مأوى مؤقت لفلسطينيين
متضررين من الحرب في غزة، وقال، في بيان: نحن مستعدون لاستقبال الضحايا الجرحى
والأطفال المصابين بالصدمات والأيتام، وإرسال طائرات لنقلهم.
وأوضح أنه وجّه وزير خارجيته للتحدث إلى المسؤولين الفلسطينيين والأطراف في
المنطقة بشأن كيفية إجلاء الغزيين الجرحى أو الأيتام، مشيرًا إلى أن الضحايا
سيبقون في إندونيسيا فقط إلى حين تماثلهم للشفاء وضمان عودة آمنة لهم.
الكيان يستبق بـهيئة للتهجير
كان الكيان الصهيوني استبق لقاء ترمب- نتنياهو وأعلن عن إنشاء هيئة لما
أسماها «الهجرة الطوعية»؛ فقد صادق المجلس الوزاري «الإسرائيلي» المصغر (الكابينيت)
على اقتراح قدّمه وزير دفاع الكيان يسرائيل كاتس، يقضي بإنشاء مديرية خاصة بهجرة
السكان الفلسطينيين من قطاع غزة، تماشيًا مع خطة الرئيس الأمريكي ترمب.
وذكر بيان صادر عن وزارة الدفاع «الإسرائيلية»، الأحد 23 مارس الماضي، أن
المديرية الجديدة ستتولى تنظيم ما وُصف بـالانتقال الطوعي لسكان قطاع غزة إلى دول
ثالثة لمن يُبدون رغبة في ذلك.
ونقل البيان عن كاتس، بحسب موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية نقلاً عن «هاآرتس»،
قوله: إننا نعمل بكل الوسائل لتطبيق رؤية رئيس الولايات المتحدة، وسنُتيح لكلّ من
يرغب من سكان غزة إمكان مغادرة القطاع إلى دولة ثالثة بشكل طوعي.
وأشار البيان إلى أن «إسرائيل» ستتيح لكلّ مقيم بغزة يرغب في ذلك أن يغادر
بإرادته، وأن ذلك سيتم وفقًا للقانونَين «الإسرائيلي» والدولي، كما أن المديرية
الجديدة ستعمل تحت إشراف مباشر من وزير الدفاع، وسيُسمح لها بالتنسيق مع منظمات
دولية وجِهات إضافية، بناءً على تعليمات المستوى السياسي.
ماذا يعني الإصرار على التهجير؟
نحن، إذن، أمام إصرار واضح على مخطط التهجير، وتحت عناوين شتى بعضها يأخذ
الطابع الإنساني كما هي تصريحات الرئيس الإندونيسي، والخطورة أن المضي في مخطط
التهجير بغزة يعني وبالضرورة فتح شهية الاحتلال وأطماعه أمام مخططات التهجير في
الضفة؛ بما يعني من جهة تصفية القضية نهائيًّا، ومن جهة أخرى تصدير المشكلات إلى
دول الجوار أو الدول الإسلامية؛ وبما يعني إجمالاً محاولة الدفع بالقضية إلى
نهايات الطرق.
فعلى مستوى الداخل، لنا أن نتصور حجم ما ينتظر الفلسطينيين في قطاع غزة وفي
الضفة الغربية من تنكيل ومجازر، لن تخفف منها الكلمات الخادعة تحت مسمى التهجير
الطوعي، فإذا كان ما يزيد على 15 شهرًا من الإبادة والمجازر قد فشلت في تهجير سكان
غزة طواعية، فكم يلزم من الدماء لإقناعهم أو لتهجيرهم بالقوة والضغط، فضلاً عما
سيحدث عند تهجير سكان الضفة الذين يقارب عددهم 3.5 ملايين فلسطيني.
وأما على المستوى العربي والإسلامي، خاصة دول الجوار الأردن ومصر، فإن
توطين الفلسطينيين لن يكون أمرًا سهلاً، ولن يكون بوسع أحد الآن أن يقدّر حجم
المشكلات التي ستنجم عن ذلك، وبعض هذه المشكلات ستكون ذات طابع ديموغرافي ينتج عنه
خلل في موازين القوى الاجتماعية، وبعضها ذات طابع هوياتي نتيجة تفاعل الحاضنة
الشعبية بهذه الدول مع فكرة المقاومة التي لن تخبو جذوتها، وإن استغرق ذلك بضع
سنوات حتى ينضج لاحقًا.
الفلسطيني لا يمكنه التخلي عن قضيته أينما راح أو رُحِّل، ويستطيع أي متابع
للحاضر فضلاً عن التاريخ أن يدرك أن ما حدث على أرض غزة من مجازر وإبادة، جرت
وقائعها على الهواء مباشرة، قد راكم في الذاكرة الشعبية فوق ما راكمته نكبة عام
1948م وما تلاها من سنوات القهر والإذلال!
الإبادة قبل التهجير
ويمكن ملاحظة أن الكيان الصهيوني، خاصة منذ انهيار الهدنة في 18 مارس الماضي،
يسعى وبشكل جنوني، في مخطط الإبادة قبل الانخراط كلية في مخطط التهجير، مستخدمًا
في ذلك الوسائل غير المشروعة المحرمة دوليًّا، لاسيما بعد أن أفرجت إدارة ترمب عما
كان معطلاً من شحنة القنابل زنة ألفي رطل؛ حتى رأينا إصابات لم تكن تحدث من قبل،
وصار من المعتاد أن تُدفن الجثث دون رؤوسها المتطايرة أو بعض أجزائها المتبخرة!
والمخزي أن أصوات الاحتجاج عربيًّا ودوليًّا آخذة في الخفوت مع تصاعد حدة
الإبادة ووحشية الاحتلال؛ ما جعل الكيان الصهيوني في مأمن حتى من اللوم والعتاب!
وبالعودة إلى تصريحات ترمب التي بدأنا بها المقال، فإن ما جاء بها عن توقف
القتال وفي وقت ليس بالبعيد، لا يعني، كما رأى محللون، صرف النظر عن مخططات
التهجير، وإنما مجرد هدنة يحظون فيها بالإفراج عن عدد من الأسرى؛ لامتصاص الغضب
المتصاعد داخل الكيان، وإعادة ترتيب الأوراق لتفعيل الهجرة الطوعية، لا سيما مع
ضغط الحصار الخانق.. فالأجواء عربيًّا ودوليًّا يراها نتنياهو فرصة مواتية غير
مسبوقة، للدفع بالقضية إلى نهايات الطرق!
لكن المؤكد أن هذا في حال حدوثه، لا قدّر الله، سيكون بداية مرحلة جديدة،
لا نهاية المطاف.. هكذا يخبرنا التاريخ!