بأي وجهٍ جئتَ يا عيد! (لأهل غزة)

نظرتْ إليه وهو يهل بوجهه الجميل على استحياء، وقد شابَهُ حزن كبير وكأنه يتألم! ولولا أنه عبد مأمور ليس له إلا الطاعة المطلقة لَمَا ظهر لها، وتراءت أمام مخيلتها صورة أبيها المفقود وأمها الجريحة وإخوتها تحت الأنقاض وخيالات النازحين، وبلدتها المحتلة وحَيّها المُهدم! قبورٌ منبوشة لم يَسلم أصحابها من الاعتداء عليهم وهم أموات، وفتيان في عمر الزهور مبتورةٌ أقدامهم، ورضّع خُدّج خمدت أنفاسهم وقد سُلبت منهم الحياة، أحياء كاملة سُويت بالتراب دون مراعاة أي حرمة لطفل رضيع أو رجل مسن، أو امرأة ضعيفة، أو حيوان بريء.

وتتسارع الصور أمام عينيها وكأنها تراها رأي العين؛ أطفال يصرخون وقد يُتِّموا؛ يبكون آباءهم وأمهاتهم، فقد صاروا بلا أب يرعاهم ولا أمّ تضمهم! وبنات كالزهرات وقد قطِفت النضرة من وجوههن التي اغبرت بالتراب وآثار الهدم من حولهن، يهرولن سعياً وراء الحياة، يجرين على غير هدى أملاً في النجاة التي باتت أشبه بالمستحيل، مساجد ومدارس وجامعات ونوادٍ ومستشفيات كانت رمزاً للعلم والقوة والحياة لم يعد لها وجود.

شريط من الصور المتلاحقة يطاردها كل لحظة وثانية في منامها وصحوها لا تستطيع منه الفكاك، تصرخ في أعماقها أين أمي وأبي وأسرتي وإخوتي وعائلتي؟ أين بيتي وغرفتي وصديقتي؟!

أفاقت من صورها المترائية لها لتعيش الحقيقة المؤلمة حيث هل هلال العيد عليها وهي تعيش أتراحه بدلاً من أفراحه، تتجرع فيه مرارة الفقد وآلام الحرمان، فلا أب ولا أم ولا بيت ولا عائلة، لا حلوى ولا كعك العيد ولا زينته ولا ملابسه ولا هديته! بل ولا أمن ولا أمان ولا حب ولا سلام؛ فعلمت عندئذ لماذا هلالها اليوم حزين، بعد أن كان ظهوره علامة الفرحة ومصدر السرور، لكنها مع ذلك تغلبت على مشاعرها الصادقة وآلامها المبرحة ورددت بصوت شجي تتوسل إلى الله، اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.

وعندها أدركت كم أن نعمة الأمن نعمة غالية خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر في هذا الدعاء فتصدرت كلماته فكانت أولى الدعوات.

هلال العيد:

ها هو هلال العيد قد هلَّ على المسلمين إنباءً لهم بحلول عيدهم، فظهور الهلال رمز التمام، وعلامة الختام، من يراه يرى فيه تجدد الحياة ودورانها، وأفولها أيضاً وانقضاءها، ومع كل إطلالة للهلال يطل الأمل لمن يراه بطول العمر، وتتجدد النية الخالصة بإحسان العمل فيما تبقى منه.

ومع ختام رمضان، فإن المسلم يتقلب بين جناحَي الخوف والرجاء؛ الخوف من أن يرد الله عليه عمله، والرجاء والطمع في قبوله، وبعد شهر من الصيام والقيام، وتدريب النفس على كبح جماحها والرقي بعزمها وإرادتها، فاز مَن فاز من الصائمين ممن نجح في اختبار هذه المدرسة الرمضانية التي تفتح أبوابها للمسلمين شهراً في العام، ولهؤلاء الفائزين البشارة العظيمة من نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ» (رواه البخاري)، فهل تكتمل فرحة المسلمين بعيد الفطر هذه الأيام؟!

الفرحة التي سُرقت:

لقد هل هلال العيد على أهل غزة بعد أفول هلال رمضان، لكن فرحتهم بالعيد لم تكتمل، إنها فرحة مبتورة الساقين لا تستطيع أن تنهض لتصل إليهم! فقد عانى أهل غزة ما عانوا، كانوا صوّاماً بلا سحور، ومفطرين بلا إفطار، وقوّاماً بلا مساجد، لا يجد الصائم منهم في يومه رغيفاً من الخبز لعياله ليفطروا عليه أو لقيمات يابسة ليتسحروا بها!

ولم يجدوا مَن يقوم من الناس برفع الجوع عنهم ومنع القتل والتدمير والحصار الحاصل لهم، وذلك في عصر يُدّعَى فيه التحضر والتقدم، وينادَى فيه بحقوق الإنسان، وتُرفع الشعارات المطالبة بحقوق المرأة وحقوق الأطفال التي اتضح أنها ليست من أجلهم، تقوم الدنيا ولا تقعد لأقل الأسباب والقضايا بينما آلاف الأطفال والنساء والشباب والرجال قتلوا وقصفوا بغير ذنب جنوه! تفقد الأم أولادها جملة واحدة، ويُحرم الطفل من والديه معاً، وتُباد الأسرة كلها دفعة واحدة، ولا صوت لأهل الحقوق يُسمَع!

وحين وُئِد الأطفال جوعاً، وتجرعت الأمهات مع الجوع كأس الفقد المُرة، وقهر الرجال ودفع بعضهم حياته ثمناً لكيس من الطحين قد يُعجن بدمه؛ لم يطالَب لهم بحق في الحياة الكريمة من هيئات الحقوق! يُسمع الخبر ويُتداول ويُرى ويعايَن وكأن شيئاً لم يحدث، فهل هذه الحقوق محفوظة فقط لأناس غيرهم، ونساء وأطفال آخرين دونهم؟ وكأن هؤلاء المستضعفين ليسوا بشراً أو هم من عالم آخر!

أتراح العيد:

لقد جاء هلال العيد حاملاً معه أتراح وأحزان المستضعفين في أرض الإسراء؛ فهم لا يعرفون كيف يفرحون ولا متى يحتفلون بالعيد، ومع من يكون الاحتفال! فقد أطل عليهم وأحبابهم ما زالوا تحت الأنقاض لا هم في بيوتهم آمنين ولا في قبورهم مكرمين!

لقد أتى العيد إليهم وأب من الآباء يقول: «لم يعد لي أحد في الدنيا، مع من أحتفل بالعيد»!

أتى العيد على أمّ تكلم نفسها وقد اختطف ابنها: «إيش عملوا فيك يا حبيبي؟!».

أتاهم العيد وطفلة من أطفالهم تبكي أخاها الشهيد وتقول: «رجِّعوا لي إياه، كان نايم بحضني»، والطفل يبكي أخاه وصديقه مردداً: «شو ذنبهم؟!»، وقد قتلوا غدراً! أو يحمل أخاه الرضيع وهو يرتجف قائلاً: «وحياة الله خائف»!

أتى العيد على أهل غزة والحلم الأكبر لهم تجسده هذه الأم: «حلمي أعود لبيتي، وأولادي يرجعون لجامعاتهم».

المؤمنون إخوة:

إن كان هذا هو عيد أهل غزة، فإن قلوب المؤمنين تشاطرهم أحزانهم وتسعى للتخفيف من معاناتهم وآلامهم، إنها تدعو لهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، لا يهدأ لهم نوم، ولا يغمض لهم جفن! قلوبهم تعتصر حزناً لأجلهم ويودون لو يفتدونهم بأنفسهم وأموالهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» (رواه مسلم).

إنه تداعي المسلم من أجل أخيه المسلم، بقية جسده وإلف روحه، تداعٍ يدفع المسلم إلى رفع المعاناة والكرب عن أخيه في أي مكان بكل ما يستطيع من أسباب مشروعة تخفف من معاناته وقهره واستضعافه.

ومع كل ذلك، فإن المؤمنين في كل مكان يوقنون تماماً أن في أقدار الله وقضائه حِكَما لا نعلمها، وأن في ثنايا الابتلاء والتمحيص خيراً كثيراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً: «واعلم أنَّ الصَّبرَ على ما تكرهُ خيرٌ كثيرٌ، وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وأنَّ معَ العسرِ يسراً» (رواه البيهقي).

فإن أتى هذا العيد الآن بأتراحه فحتماً سيأتي غداً بأفراحه، غداً ستُبنى الديار، ويأمن الخائف، ويرجع النازح، غداً ستُفتح المدارس وتؤسَّس الجامعات وتعلو المآذن، غداً سوف يولد الأولاد وتكبر الأسَر وتمتد العائلات، وغداً يعود الحق لأهله مصداقاً لوعد الله عز وجل: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم).


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة