بين إعذار المخطئ وتمييع الخطأ

لا مفرّ من الحاجة أحيانًا إلى الترفق بالمخطئ والتغافل عن بعض زلّاته، اتّقاءً لنفوره أو استصلاحًا لقلبه ليقبل الموعظة في وقتٍ لاحقٍ أنسب، غير أنّ هذا الرفق إن تجاوز حدَّه، تحوّل إلى تدليسٍ على الحقّ وتمييعٍ للخطأ، فتضيع معالم الصواب، وتختلط مقامات الرحمة بمزالق المسايرة، ويصبح الإعذار بوّابةً إلى الإقرار، والتفهم طريقًا إلى التحريف.

حدود الإعذار والإنذار

تخيّل أبًا يرى ابنه الصغير وقد انسكب منه كوب الحليب على الأرض، لأنه كان يتلاعب بالكوب ممسكًا إيّاه من الحافّة.

الأب الحكيم لا يوبّخه بعنف، ولا يتغافل كأن شيئًا لم يكن، بل يقول له بهدوء: «لا بأس عليك يا بنيّ، لكن انتبه ألا تمسك الكوب من الحافة مرّة أخرى، ولا تتلاعب النعمة فتذهب هدْرًا».

هنا اجتمع الرفق بالتوجيه، لا السكوت عن الخطأ.

وفي المقابل، إن قال الأب: «لا بأس، ليست مشكلة، سأصبّ لك غيره» من غير تصحيح ولا تعليم؛ فإن الابن سيفهم أن الخطأ لا بأس به، وأنّ التهاون عادة مقبولة.

ذلك هو الفارق بين إعذار المخطئ وتمييع الخطأ.

إنّ إعذار المخطئ لا يعني بحالٍ تأييده في خطئه، ولا يُسوّغ التهوين من شأن الذنب، ولا التلطف على وجهٍ يُفهم منه الرضا بما لا يُرضي الله تعالى، فالمقصود هو تفهّم وضع المخطئ وما قد يلابس حاله من الجهل أو الضعف أو الغفلة، ثمّ التعامل معه بما يناسب تلك الحال من اللين والرفق دون المساس بجوهر الحقّ أو نسبته إلى غير موضعه.

أمّا تمييع الخطأ فهو أن يختلط الأمران، فيتسع صدر الناصح للباطل باسم اللين، وينكمش قلبه عن البيان باسم الحِكمة، فيتحوّل اللطف من وسيلةٍ للإصلاح إلى غطاءٍ للتبرير.

والفرق بين المقامين دقيقٌ بليغ؛ إذ قد يجتمع في الموقف الواحد قلبٌ رحيمٌ ولسانٌ حازم، كما قد يجتمع قلبٌ قاسٍ ولسانٌ متملّق، والحقّ أن الجمع بين الرحمة والحزم هو مِلاك الدعوة الراشدة، ولبّ الموقف النبوي في التعامل مع الخطأ وأهله.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالخلق، ومع ذلك كان أشدّهم في بيان الحق، لما بال الأعرابي في المسجد، لم يزجره أو يفضحه، بل قال لأصحابه: «لا تُزرموه»، ثم أمر بسكب دلوٍ من ماء على موضعه، وقال للأعرابي في رفقٍ وتعليم: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» (رواه مسلم)، فهذا هو الإعذار المربّي الذي يصون كرامة المخطئ ويُقوّم فعله بغير تعنيف.

وفي موضعٍ آخر، لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلًا يبيع بيمينٍ كاذبةٍ قال: «من غشّ فليس منّا» (رواه مسلم)، فكان بيانه حازمًا واضحًا، لا التباس فيه ولا مداهنة، فجمع صلى الله عليه وسلم بين الرفق في الأسلوب والحسم في البيان، وهما جناحان لا تقوم التربية الرشيدة إلا بهما.

ومن الخطأ أن يُظنّ أنّ التماس العذر للمخطئ يقتضي السكوت عن غلطه أو إحاطته بهالةٍ من التفهّم المبالغ فيه، لأنّ هذا يُفضي إلى إبطال فريضة النصيحة وتغييب وظيفة التوجيه، فالإعذار المشروع إنما يكون لمتعلمٍ جادٍّ أو مكابدٍ صادقٍ، يقع خطؤه عن اجتهادٍ أو جهلٍ لا عن استخفافٍ أو تهاونٍ، أمّا التماس الأعذار لمن لا يُبالي بخطئه، فليس من الرحمة في شيء، بل هو ضعفٌ وتقصيرٌ في أداء الأمانة.

ثمّ إنّ النفوس بطبعها تميل إلى من يخفّف عنها ثقل الاعتراف بالخطأ، وتستطيب سماع من يُبرّر لها انحرافها بلطفٍ ولباقةٍ؛ فتركن إليه وتستوحش ممن يواجهها بالحقّ وإن كان ناصحًا مخلصًا، وهكذا، بطول التغافل والتبرير، تُدفع الأخطاء إلى عمق النفس فتستقرّ فيها مستأنسةً بمأمنها من اللوم، ثمّ مع الأيام يتحوّل الخطأ إلى مألوفٍ، والمألوف إلى مقبولٍ، والمقبول إلى مستساغٍ لا يُنكر، وذلك هو التمييع الذي يُميت الإحساس بالخطيئة في القلوب قبل أن يُميت العمل الصالح في الجوارح.

خطر التمييع وخطأ الغِلظة

يتأول الكثيرون قوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125)، و(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا) (طه: 44) على أنّ المقصود منهما التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، وعدم مواجهتهم بها خشية أن يَنفِروا من الدعوة ولا يستجيبوا لها! وهذا فهم أعوج وتصور مغلوط، وإنما القصد من الموعظة الحسنة: «التذكرة بما في الكتاب والسُّنّة من الزواجر والوقائع، ليحذروا بأس الله» (تفسير الطبري).

ومن أخطر ما أصب المنهج الدعوي المعاصر هو الخلط بين الحكمة في البيان والميوعة في الخطاب، فالأولى تُراد لإيصال الحق بأفضل الأساليب، والثانية تُراد لتسكين السامع ولو بتعطيل الحق نفسه، وقد جرى هذا الانحراف بتأثير المفاهيم المستوردة من مدارس التنمية البشرية والاتصال الجماهيري، التي تجعل معيار النجاح هو القبول العام لا الصواب في المضمون، فتُقاس الدعوة حينئذٍ بمؤشرات الرضا والانتشار، لا بمدى انضباطها بالوحي والهدى، ولو كان اجتماع الحقّ والشعبية ممكنًا على الدوام، لكان الأنبياء أولى به، ومع ذلك يأتي من الأنبياء يوم القيامة من ليس معه أحد من الأتباع، ولا يقوّض ذلك من قيامه بمسؤوليته أمام الله تعالى.

وتأمل –مثلًا- مقالة سيدنا موسى عليه السلام حين دخل على فرعون، بدأ بتعريف نفسه وأخيه على أنهما رسولا الله إليه، رغم علم سيدنا موسى بكفر فرعون بالله تعالى وكراهته لدعوى النبوة التي تزعزع تصوّره لألوهية نفسه، وخُتمت الآية بقوله: (وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ) (طه: 47)، ولم يقل: والسلام عليك؛ وفي ذلك إشارة ملحوظة لإخراج فرعون من دعاء السلام إذا لم يتّبع الهدى، ثم: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (طه: 48)، وفي ذلك تهديد واضح لفرعون وقومه بالعذاب الذي ينتظرهم إن هم كذّبوهما وتولوا عن الحق الذي يعرضانه عليهم!

ثم يستمر الحوار وسيدنا موسى عليه السلام يعرض فيه الحقّ والحقائق على وجهها، بغضّ النظر عن استلطـــاف فرعون لما يسمع أو نفوره منه، وكـان هذا هو تطبيقه عليه السلام للقول "اللّين" في مخاطبة فرعون!

على أن الغلظة في المقابل ليست هي المخرج من هذا الانحراف، فكما يُذمّ التمييع يُذمّ التنفير، ومن دقيق الفقه التمييز بين الغلظة في الحق التي هي من القوة الممدوحة، والغلظة على الخلق التي هي من الكِبر المذموم، فالمطلوب أن يكون الناصح حازمًا في المبدأ، رحيمًا في الأسلوب، يُقيم الحجة على المخطئ دون أن يُسقطه، ويكشف الخطأ دون أن يُهين صاحبه.

ومع ذلك لا بد من التنبه إلى أن رِفق إيصال الحق شيء، وثِقَل وطأة الحق على نَفْسِ من غَرِق في الباطل شيء آخر، فإنك مهما توخَّيت اللطف في إبلاغ أحد بخبر وفاة –مثلًا- مُربّتًا على كَتِفه، تصله وطأة الخبر كاللطمة على وجهه! وقد جعل الله تعالى القرآن مُيسَّرًا للذِّكر، لكن ذلك لا ينفي أنه قول ثقيل، فلا تعارض بين الكِفّتين، وإنما هي أقدار الأمور وطبائعها.

إن الرحمة بالناس لا تُعارض الصدق في الحق، بل هي سبيله الأقوم، وحُسن الأسلوب يعني معرفة المقال لكل مقام، لا تمييع المقال في كل مقام! ومن تأمل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنّه لم يكن يعذر في الحق (أي لا يتنازل عن بيانه)، لكنه كان يعذر للخلق (أي يراعي ضعفهم وجهلهم وظروفهم).

وعليه، فليكن شعار التربية الرشيدة هو «ارحم المخطئ، ولا تُجامل الخطأ».

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة