تجويع قطاع غزة جريمة ضد الإنسانية

د. أشرف عيد

25 أغسطس 2025

413

كان العرب في الجاهلية أكثر إنسانية ومروءة من عالمنا اليوم، فلم يرتضوا حصار المسلمين في شِعب أبي طالب، فخرج نفر منهم رفضوا استمرار الحصار والتجويع، وكان شعارهم في ذلك «أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكي؟!».

والتجويع منهيٌّ عنه في الإسلام للإنسان والحيوان على حد سواء؛ فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستانًا لأحد الأنصار، وكان فيه جمل، فلما رأى الجملُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه؛ فاقترب منه النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على رأسه حتى هدأ، وقال: «لمن هذا الجمل؟»، فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله، فقال له: «أفلا تتق الله في هذه البهيمة، فإنه قد شكا إلى أنك تجوّعه وتتعبه»(1)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «عذبت امرأة في هِرّة سجنتها حتى ماتت؛ فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها، ولا هي سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»(2).

يشاهد العالم اليوم أجمع أكثر من مليوني إنسان يموتون تحت القصف العنيف الذي تجاوز تأثيره 4 قنابل نووية؛ إضافة إلى الحصار الخانق ليجتمع على أهل غزة القتل والخوف والجوع والمرض والتهجير والعطش، والعالم جميعه يسمع ويرى بكاء أطفال غزة الذي يموتون تجويعًا ولا مغيث! ولا تستطع دول العالم الضغط على سلطة الاحتلال لدخول المساعدات الإغاثية لغزة!

القانون الدولي يحظر استخدام التجويع كسلاح في الحرب

التجويع جريمة حرب ضد الإنسانية بموجب القانون الجنائي الدولي؛ حيث يحظر في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949م، الذي ينص على أنه «لا يجوز لقوات الحصار تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب»، وبالمثل «يُحظر مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو تعطيل أي مواد ضرورية لبقاء المدنيين مثل الغذاء والأراضي المستخدمة لزراعة الغذاء والمياه ومنشآت الري وما إلى ذلك»، بغض النظر عما إذا كان الهدف هو تجويع السكان المدنيين أو إجبارهم على النزوح أو أي دافع آخر.

وينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن التجويع يُعد جريمة حرب عند ارتكابه في سياق نزاع مسلح دولي، وعملًا من أعمال الإبادة الجماعية، ويستوجب مرتكبوه الملاحقة القضائية؛ فينص على: «تجويع المدنيين عمدًا بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية هو جريمة حرب محظور بموجب المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والمادة (14) من البروتوكول الإضافي الثاني في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية؛ «لا يجوز لأطراف النزاع التسبب عمدًا بالتجويع أو التسبب عمدًا في معاناة السكان من الجوع، ولا سيما عبر حرمانهم من مصادر الغذاء أو الإمدادات».

ويُحظر على الأطراف المتحاربة أيضا مهاجمة الأهداف التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل الإمدادات الغذائية والطبية، والمناطق الزراعية، ومنشآت مياه الشرب، والأطراف ملزمة بتسهيل تقديم المساعدة الإنسانية السريعة ودون عوائق إلى جميع المدنيين المحتاجين، وعدم عرقلة المساعدات الإنسانية عمداً أو تقييد حرية حركة موظفي الإغاثة الإنسانية.

التجويع في غزة كارثة إنسانية

تُشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أن الوضع الغذائي في قطاع غزة بلغ المرحلة الخامسة (كارثية) وفق تصنيف «آي بي سي» (IPC) العالمي لانعدام الأمن الغذائي، وهي أعلى درجات التصنيف، وتُشير إلى خطر المجاعة؛ حيث يعاني سكان القطاع من جوع كارثي.

ويثبت الكيان الصهيوني على مدار ما يقرب من سنتين من الحرب الهمجية النازية التي يشنها على المدنيين في غزة تجرده من الأخلاق باستخدامه التجويع والحرمان من الطعام والماء والدواء سلاحًا في حربه، فكل يوم يموت أطفال ونساء وشيوخ ومرضى جراء التجويع وسوء التغذية أو القتل أمام مواقع توزيع المساعدات التي وصفت بأنها «مصائد الموت»! مما تعتبر جريمة حرب ضد الإنسانية تعاقب عليها الأديان السماوية والقوانين الدولية.

وأعلنت «هيومن رايتس ووتش» أن «إسرائيل» تستخدم المجاعة كسلاح حرب من خلال حرمانها عمدًا من الوصول إلى الغذاء والماء، واتهم خبراء الأمم المتحدة «إسرائيل» بتدمير النظام الغذائي في غزة، واستخدام الغذاء كسلاح ضد الشعب الفلسطيني.

وقال مقرر الأمم المتحدة الخاص مايكل فخري: إن «إسرائيل» مذنبة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية؛ لأنها أعلنت نيتها تدمير الشعب الفلسطيني كليًا أو جزئيًا، لمجرد كونه فلسطينياً، وتحرم الفلسطينيين من الغذاء عن طريق وقف المساعدات الإنسانية وتدمير عمداً سفن الصيد الصغيرة والبساتين في غزة.. إننا لم نرَ قط سكانًا مدنيين يُجبرون على الجوع بمثل هذه السرعة الكاملة.

وقد واجه نظام الرعاية الصحية في غزة عدة أزمات إنسانية نتيجة للهجوم «الإسرائيلي»؛ حيث واجهت المستشفيات نقصًا في الوقود، وبدأت في إغلاق أبوابها بسبب نفاد الوقود عندها انقطعت الكهرباء عن المستشفيات تمامًا، ومات العديد من الأطفال الخدج في وحدات العناية المركزة لحديثي الولادة، وقتلت الغارات الجوية «الإسرائيلية» العديد من الطواقم الطبية، ودُمرت سيارات الإسعاف والمؤسسات الصحية والمقرات الطبية والمستشفيات، وأفادت التقارير بأن العشرات من سيارات الإسعاف والمرافق الطبية قد تضررت أو دمرت، بما في ذلك وفيات الكوادر الطبية، وأن نظام الرعاية الصحية انهار تماماً.

وأعدت خبيرة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز تقريرًا للأمم المتحدة جاء فيه أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن «إسرائيل» تنفذ إبادة جماعية في غزة، ودعت إلى فرض حظر عالمي على الأسلحة على هذا الأساس، وأوضحت أن أعمال الإبادة الجماعية شملت القتل الجماعي، والأذى الجسدي، والاعتقال القسري؛ وتعمد إخضاع سكان غزة لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديًا كليًا أو جزئيًا، وأن 70% من القتلى كانوا من النساء والأطفال.

وقال تلالينج موفوكينج، مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الصحة: إن تدمير مرافق الرعاية الصحية لا يزال يتصاعد إلى أبعاد لم يتم قياسها بشكل كامل بعد، إنهم أيضًا يفرضون عن علم وقصد المجاعة وسوء التغذية والجفاف لفترات طويلة، ويتهم «إسرائيل» بارتكاب إبادة جماعية، وأشار إلى الوضع الحالي في غزة يتعارض تمامًاً مع الحق في الصحة.

وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2024م مذكرات توقيف بحق كل من نتنياهو، ووزير الدفاع جالانت، لقيامهما بحرمان السكان المدنيين في قطاع غزة من الموارد الضرورية للبقاء على قيد الحياة، كالغذاء والماء والدواء والوقود والكهرباء، واستخدام التجويع من أساليب الحرب التي تشكل جريمة حرب.

واتخذت النرويج وبعض دول الاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية الحقوقية وغيرها إجراءات للضغط الكيان الصهيوني لإجباره على دخول المساعدات لقطاع غزة، إلا أن قوافل المساعدات أمام معابر غزة لم تتحرك بما يكفي لمواجهة سياسة التجويع.

في هذا الوضع، مَن المسؤول عن تجويع غزة؟! هل سلطة الاحتلال وحدها، أم من يدعمها؟ أم من يصمت ولا يحرك ساكنا؟! ومتى تتوقف هذه الجريمة الإنسانية في ظل عرقلة سلطة الاحتلال كل مرة التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار كلما لاح في الأفق بوادر أمل لنهاية الحرب فع معاناة شعب غزة؟!





________________

(1) مسند أحمد (1745)، الألباني: صحيح أبي داود، (2549).

(2) فتح الباري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (3295).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة