ثقافة حقوق الإنسان.. كيف ننشئها؟

مصطفى عاشور

20 أكتوبر 2025

73

التنشئة على حقوق الإنسان تحتاج إلى جهد وزمن ورؤية واضحة، فهي ثقافة تأتي عبر قيم وأفكار ومعلومات وسلوكيات تتراكم خلال فترة زمنية ممتدة، ولها أدواتها ووسائلها في المجال التعليمي والثقافي والديني والاجتماعي.

التنشئة على ثقافة حقوق الإنسان تحتاج إلى القيام بعمليتين وجهدين متوازيين ومتزامنين ومتكاملين؛ الأول: انتزاع ثقافة الاستبداد من النفوس والسلوكيات ومن الواقع الاجتماعي مع بيان قبح الاستبداد وآثاره المدمرة على الإنسان والمجتمع، وهذا الجهد يشبه حائط الصد القوي أمام عودة الاستبداد مرة أخرى، فالاستبداد هو المُهدر الأول لثقافة حقوق الإنسان.

الثاني: غرس ثقافة الحقوق وبخاصة حقوق الإنسان في كافة الأصعدة والمحاضن التربوية والمجتمعية، وتقوية ذلك الغرس بسلوكيات تشجع على حقوق الإنسان، وحماية تلك الثقافة من خلال النصوص القانونية والدستورية، بحيث يمثل التعدي عليها انتهاكاً صارخاً لقيم المجتمع وقوانينه.

كيف نقاوم الاستبداد تربوياً؟

مقاومة الاستبداد تربوياً وثقافياً بداية ضرورية لغرس ثقافة الإنسان وترسيخها، ولعل نقطة البدء في ذلك تكون من بناء تصور واعٍ بشأن كون الإنسان مفطوراً على القابلية للصلاح والفساد، فالأفراد هم نتاج الثقافة التي تنشؤوا عليها، ومن ثم لا يوجد استحالة في مقاومة الاستبداد، ولكن مقاومة الاستبداد تحتاج لجهد ونضال لنزعه واستبداله ثقافة حقوق الإنسان به، ومن وسائل ذلك:

1- كسر هيبة الاستبداد: فتحطيم هيبة الاستبداد أمر ضروري لإتاحة المجال للتنشئة على الحرية والعدل والمساواة والكرامة، تلك الأصول الكبرى لحقوق الإنسان، فالهيبة التي يفرضها الاستبداد حوله تتحول إلى عملية تقديس، ومع التقديس تختفي المساءلة، ويتصرف المستبد في حقوق الناس وأرواحهم كيفما يشاء بلا رادع أو محاسبة، وتحطيم هيبة الاستبداد تأتي عبر تراكمات من التنشئة على الجرأة، والكلمة الحرة والرأي الشجاع، واحترام الحقوق.

2- تفكيك العلاقة بين الفساد والاستبداد: التحالف بين الفساد والاستبداد من أقوى البيئات التي تختنق فيها حقوق الإنسان، لأنها تجمع بين عنف السلطة وجبروتها، وجشع المال وأصحاب المصالح، وهذا التحالف في حال تفكيكه يسمح للأفكار التي تتحدث عن حقوق الإنسان أن تنمو، ولذلك قال الكواكبي: «الاستبداد أصل كل فساد».

3- مقاومة القابلية للاستبداد: هذه المقاومة تأتي من خلال تغيير منظومة الأفكار التي تنظر للحرية والعدل والمساواة، وكذلك التي تنظر للإنسان كجوهر له حقوق يجب أن تصان وتحترم، فوجود تلك القابلية ما هي إلا عملية وأد لكل حديث عن حقوق الإنسان، وهذا يستوجب تفكيك الكثير من المقولات التي تسمح بترسيخ قابلية الاستبداد، ومنها:

  • «الناس على دين ملوكهم» التي تستخدم لتبرير الحاكم المستبد، فتلك المقولة التي تردد صداها في بعض كتب التراث، لا شك أنها تدعم موقف المستبد، وبالتالي تهدر البيئة الصالحة لنحو ثقافة حقوق الإنسان.
  • «60 سنة بسلطان ظالم خير من ليلة بلا سلطان» أو «سلطان جائر 70 سنة خيرٌ من أمة سائبة ساعة من نهار»، وهي مقولة نسبت إلى بعض العلماء، والمقولة استخدمها البعض لترسيخ الاستبداد ومن ثم إهدار حقوق الإنسان.

وبعض هذه المقولات والأفكار ما زال يُستخدم مضمونها حتى الآن فيما يعرف بـ«السلفية المدخلية» التي تبرر تعسف ذوي السلطة بغطاء شرعي، كما أن مثل تلك المقولات تضع الناس أمام خيارات موهمة وخطرة؛ فإما الاستبداد وإما الفوضى العارمة، وتلك المقولات لا تعترف بوجود أي معارضة أو رأي مخالف، فلا صوت إلا صوت المستبد.

وسائل غرس ثقافة حقوق الإنسان

غرس ثقافة حقوق الإنسان عملية ليست باليسيرة ولا السريعة العاجلة، ولكنها عملية ممتدة زمنياً، ولها أفكارها الواضحة التي تسعى لنشرها في النفوس والمجتمع، ومن تلك الوسائل:

1- التربية: تعد التربية من أهم الوسائل والبدايات في التنشئة على ثقافة حقوق الإنسان؛ لذا، حظيت بحديث موسع عند عبدالرحمن الكواكبي، في كتابه «طبائع الاستبداد»، فيقول: «وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب فضلاً عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار، وأن التعليم عن رغبة في التكمل أرسخ من العلم الحاصل طمعًا في المكافأة، أو غيرةً من الأقران».

ومن هنا، فالتربية السوية التي تعلم الحرية وسيلة قوية لمقاومة الاستبداد الذي يعصف بحقوق الناس وأخلاقهم.

2- أصالة ثقافة حقوق الإنسان في التراث: من الضروري إبراز عمق وأصالة ثقافة حقوق الإنسان في التراث العربي الإسلامي، وربطها بمصادرها الشرعية، وأن لها جذوراً عميقة في الدين، ولها حضور في الممارسة التاريخية، وإبراز المقولات والشعارات التي تؤكد ذلك ودمجها في ثقافة الناس ووعيهم.

ومن تلك المقولات الحديث الشريف: «يا أبا هُريرةَ، عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ مِن عِبادةِ سِتِّينَ سَنةً؛ قِيامِ ليلِها، وصِيامِ نَهارِها، ويا أبا هُريرةَ، جَورُ ساعةٍ في حُكْمٍ أشَدُّ وأعظَمُ عندَ اللهِ مِن معاصي سِتِّينَ سَنةً»، الذي ضعَّفه بعض العلماء سنداً، ومقولة ابن خلدون: «الظلم مؤذنٌ بخراب العمران»، و«الإمام العادل خصب الزمان».

3- التشجيع على قراءة ومدارسة بعض الكتب التي تدعم ثقافة الحريات وحقوق الإنسان: ومنها كتاب «فضيلة العادلين من الولاة»، وهو كتاب لأبي نعيم الأصفهاني (ت 430هـ)، وهو كتاب يقع في 170 صفحة، ويتناول فضيلة عدل الحاكم، وكتاب «طبائع الاستبداد» للكواكبي، وكتاب «الإسلام وحقوق الإنسان ضرورات لا حقوق» للدكتور محمد عمارة، وغيرها من الكتب الإسلامية والعالمية في المجال، ومنها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

4- دمج ثقافة حقوق الإنسان في الحياة اليومية: وذلك من خلال جعلها ثقافة وممارسة موجودة في الأسرة والشارع والمدرسة وأماكن العلم، فالجميع يعرف حقوقه ويسعى بكل جهد لممارستها، وتوجيه الناس لمقاومة أي انتهاك للحقوق الإنسانية والتصدي له.

5- تحويل حقوق الإنسان إلى حق قانون بجانب كونها واجباً أخلاقياً: من خلال النضال البرلماني والتشريعي لتضمين حقوق الإنسان في الدساتير والنصوص القانونية، وعدم الاكتفاء بكونها فضيلة أخلاقية، وهذا يتطلب مواجهة بعض الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان حتى يفهم المجتمع أن حقوق الإنسان قضية قانونية لها نصوص تحميها وقوة تفرضها، هذه المواجهة تضع أسساً ثقافية جيدة وإطاراً فاعلاً لحقوق الإنسان داخل المجتمع وفي البنية القانونية للدولة.


اقرأ أيضاً:

حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر

حقوق الإنسان في العالم الإسلامي.. نظرة غربية

حقوق الإنسان في الإسلام.. وثيقة «المجلس الدولي للعالم الإسلامي»

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة