حول النظام السياسي الإسلامي

جاء الإسلام
ليبني نسقاً حضارياً متكاملاً مبنياً على أصول عقيدته وشريعته، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (الشورى: 13)، وإقامة الدين في الآية الكريمة تعني إقامة نظامه العام
وبناء الأنساق الحضارية المختلفة على مقتضاه؛ بحيث يكون المرجعية العليا الجامعة
لأبناء المجتمع المسلم فلا يختلفون ولا يتفرقون، وتلك المرجعية تتأسس على ثوابت
الوحي وكلياته العقدية والشرعية والأخلاقية التي تواطأ عليها جميع الأنبياء
بالبلاغ وجميع الكتب السماوية بالبيان.
وإذا كان من
وظائف الدين بناء الحضارة التي تعبر عن ثوابته ومقاصده، فإن ذلك ينعكس ولا بد على
كل جوانب الحياة في المجتمع المسلم، وهو ما عبر عنه كثير من المفكرين المعصرين
بمبدأ «شمول الإسلام»؛ وهو مبدأ صحيح متقرر تأصيلاً في الكتاب والسُّنة، وتنزيلاً
في تاريخ المسلمين الطويل المزدهر.
النظام السياسي الإسلامي لا شك تضرر كثيراً
بالانتقال من الخلافة الراشدة إلى المُلْك العاضّ حيث غُيِّبت الشورى
وإذا كان
للإسلام مشروعه الحضاري المتكامل الذي بيَّن الوحي أصوله، ووضع النبي صلى الله
عليه وسلم لبناته الأولى، وحاولت الأمة أن تكمل المسيرة بعد نبيها فأصابت حيناً
وأخطأت أحياناً، فإننا مطالبون دائماً بتجديد الدين؛ بمعنى إدراك جوانب النقص أو
الخلل أو الانحراف في واقعنا الحضاري، والسعي لتقويم الانحراف وإكمال النقص، وقد
جعل الله من سننه الجارية في هذه الأمة المباركة أن يبتعث من أبنائها على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها؛ أي: فاعلية الدين في واقعها وقيادته لمسيرتها على نحو
من الرشاد والهداية.
وقد بنت الأمة
ضمن منظومتها الحضارية نظامها السياسي الفريد الذي ولد بالهجرة النبوية، واستبانت
معالمه بوضع النبي صلى الله عليه وسلم لدستور المدينة الذي كان بمثابة ميلاد لدولة
دستورية قانونية متعددة المكونات، مرجعيتها العليا شريعة الإسلام، وتضمن ذلك
الدستور أكثر من خمسين مادة دستورية شديدة الإحكام، بينت النظام العام لدولة
المدينة والحقوق والواجبات المترتبة على مواطني هذه الدولة والمحظورات الكبرى التي
جرمها دستور المدينة، وارتضته كل مكونات المجتمع وقتئذ، ولا يزال ذلك الدستور
الإسلامي الأول بحاجة إلى مزيد من الدرس لاستيعاب فلسفته ومنطلقاته في بناء الدولة.
القول بأن الإسلام لا يملك نظاماً سياسياً نتج
عن محاولة تطويع الإسلام لقبول النموذج الغربي في لحظة انكسار
وبعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم، اجتمع ممثلو الأمة في سقيفة بني ساعدة وتداولوا الرأي بينهم
ليخرجوا على الناس باتفاقهم على ترشيح أبي بكر لخلافة النبي صلى الله عليه وسلم،
وتقبل جموع الأمة ترشيح أبي بكر وتبايعه بيعة عامة انعقدت له بموجبها مشروعية
الخلافة، ثم جربت الأمة نماذج وطرقاً أخرى في اختيار عمر، ثم عثمان، قبل أن تطل
الفتنة برأسها وتحول بين الأمة ومواصلة مسيرة التطوير في بناء نموذجها السياسي
الذي يسهم مع غيره من النظم في بناء حضارة الإسلام، أو إقامة الدين بالتعبير
القرآني.
ولا شك أن
النظام السياسي الإسلامي قد تضرر كثيراً بالانتقال من الخلافة الراشدة إلى الملك
العاض؛ فغيبت شورى الأمة في اختيار حكامها وحقها في انتداب الأكفاء الأمناء
لقيادتها، وصارت البيعة إجبارية بحكم الوراثة أو ولاية العهد التي عطلت الشورى
العامة؛ التي هي واحدة من القيم المركزية للنظام الإسلامي، وأحلت محلها ما ليس من
هدي الإسلام في شيء.
ورغم النقص الذي
دخل على الأمة في نظامها السياسي، فإن كثيراً من عُرى ذلك النظام بقيت صحيحة
متماسكة؛ فبقيت الشريعة مرجعية القضاء والأحوال الشخصية، وبقي النظام الاقتصادي
بعيداً عن الربا وثقافة الاستهلاك، وبقيت شعائر الإسلام العامة غالبة على المجتمع،
حتى دخلت الأمة في الطور الثالث؛ طور المُلْك الجبري بالعبارة النبوية الذي عطل كل
النظام الإسلامي، واتخذ للأمة مرجعية أخرى مستوردة ما زالت الأمة ترفضها وتسعى
للتخلص منها والعودة إلى نسقها الحضاري الأصلي وتجديد دينها على الهدي النبوي
والنظام الراشدي من جديد.
وهذا التطلع من
جماهير الأمة يواجَه بشبهتين كبريين؛ أولاهما: أن العالم قد وصل إلى أمثل النظم
السياسية ولم يعد في إمكان العقل البشري أبدع من النظام الديمقراطي الغربي الذي
صار في نظر بعض الباحثين والسياسيين التقدميين كهنوتاً جديدًا وحرماً مقدساً لا
يقبل النقد ولا التقييم ولا البحث عن بديل.
النظام السياسي جزء لا يتجزأ من جملة النظم
الإسلامية التي تنبني بالأساس على التصور العقدي الإسلامي
والشبهة الثانية
التي سارت بها ركبان الغفلة: أن الإسلام لا يملك نظاماً سياسياً محدداً، ولم يأت
في باب السياسة إلا بمبادئ عامة؛ كالحرية والعدالة والشورى والمساواة والكفاية
ونحوها من القيم المجردة التي يمكن صبها في أي قالب حضاري، التي يدعي بعضهم في
جرأة عجيبة أن تتفق أو تكاد مع النظام السياسي الذي أنتجته الحضارة الغربية.
وكلتا الشبهتين
تحتاج نقاشاً تفصيلياً، غير أننا في هذه المقالة سنضع نقاط نظام محددة لتفنيد
الشبهتين مجتمعتين؛ إذ هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة:
1- القول بأن
الإسلام لا يملك نظاماً سياسياً محدد المعالم مجازفة علمية لم تقم على مساءلة
الإسلام ذاته، وإنما نتجت عن محاولة تطويع الإسلام لقبول النموذج الغربي في لحظة
انكسار نفسي واستلاب فكري تلبّس بها بعض المتصدرين في عقود الضعف.
وقد كتب كثير من
الباحثين تصورات معتبرة لنظام سياسي عصري متكامل مبني على تصور الإسلام، ومراع
غاية المراعاة مقتضيات العصر، وقادر على منافسة النظام الغربي والتفوق عليه في
نقاط قوته، فضلاً عن تلافيه الثغرات الكبرى التي كشفت عنها التجربة، وأدركها
القاصي والداني من خلق الله إلا بعض بني جلدتنا.
2- هؤلاء
المقدسون للنظام الغربي أشبه بأصحاب غلق باب الاجتهاد الذين ظهروا في عصور ضعف
الفقه الإسلامي، وهم يعترضون بشدة على ثوابت الدين فيريدون إخضاعها لمبدأ التطوير،
لكنهم يقفون عاجزين أمام منتج فكري بشري يقول أصحابه: إنه أفلس وانتهى بهم لوصول
أكثر شرائحهم تطرفاً وانغلاقاً إلى سدة الحكم، أما دراويش العلمانيين العرب فما
زالوا يسبحون بحمد ذلك النظام، ولا يتصورون إمكانية تغيير مصطلح من مصطلحاته، في
حالة عجيبة من الأحادية والانغلاق الفكري من دعاة الحداثة والتطور والعقلانية!
3- يتجاهل هؤلاء
عمداً أو جهلاً أن بين النظامين الإسلامي والغربي المادي تناقضاً تاماً على مستوى
الأصول، ويمكن أن نضرب لذلك مثالاً من جملة أمثلة هو المتعلق بنظرية السيادة التي
تراها الحضارة الغربية على مستوى الفلسفة والتأصيل، أو على مستوى التنزيل، بشرية
خالصة، فالمجتمع بأغلبيته هو مرجع الخير والشر والصواب والخطأ، ويمكنه أن يغير كل
شيء، في حين يتأسس النظام الإسلامي على أن السيادة لوحي الله ولا تخضع لتجاذبات
البشر.
العقل المسلم مطالب بإبداع نموذجه السياسي غير
حبيس في قوالب التاريخ ولا ذائب في أحماض الحضارة الغربية
والمقصود
بالسيادة هنا المرجعية القانونية العليا الحاكمة لكل السلطات، والقواعد الحاكمة
لكل التشريعات، بحيث تكون مطلقة غير محدودة في مداها ولا مدتها، وغير قابلة
للتغيير أو خاضعة للتصويت، وهو ما اصطلح على تسميته بـ«المبادئ فوق الدستورية»،
وكل نظام سياسي يحتاج بالضرورة إلى هذه المبادئ لتضمن له الاستمرار والاستقرار
والحد المقبول من الثبات.
4- وهذه
المرجعية العليا لا تلغي وظيفة الأمة، لكنها تحددها في الإطار الصحيح، فالأمة –في
التصور الإسلامي- مكلفة في مجموعها بإقامة الدين، وبناء نظمها جميعاً وفقاً
لثوابته المتفق عليها المعلومة بالضرورة، وما شرعه الله من سلطان للأمة بالاستخلاف
وللإمام بالبيعة ليس تفويضاً مطلقاً ولا منحاً للسيادة، بل هو تكليف بسلطة مقيدة
ومسؤولية محددة للقيام بواجبات الدين وتحقيق مقاصده ورعاية المصالح المعتبرة.
والنظام السياسي
جزء لا يتجزأ من جملة النظم الإسلامية التي تنبني بالأساس على التصور العقدي
الإسلامي، وتتآلف فيما بينها في إقامة الحياة الكريمة التي أرادها الله للبشر.
5- تقييد سلطة
الأمة بسيادة الشرع ضمانة لازمة لمنع أمرين خطيرين؛ الأول: استبداد الأكثرية على
الأقليات، والثاني: منع انحراف المزاج العام -لسبب من الأسباب- إلى ما يدمر أصول
الحياة الاجتماعية الرشيدة، ويخالف مراد الله من عباده، وكلاهما مشهود في واقع
الناس بما لا يحتاج إلى بيان.
ومن ثم، يجب
التفرقة بين السيادة والسلطة؛ فالسيادة دائمة والسلطة مؤقتة، والسيادة مطلقة
والسلطة مقيدة، والسيادة حاكمة والسلطة محكومة، وعليه؛ فإن أساس النظام السياسي
الإسلامي يتمثل في أن السيادة للشرع والسلطة للشعب.
6- ووفقاً لهذا
التصور، السلطة السياسية في النظام الإسلامي سلطة بشرية تتمثل في مجموعة من
الاجتهادات التي تسعى لتنزيل الكليات والأحكام الشرعية تنزيلاً صحيحاً على واقع
المجتمع، وإلى رعاية المصالح المعتبرة، وبذل غاية الوسع في تحقيق هذين المقصدين،
وهي في ذلك تصيب وتخطئ وتحتاج إلى الرقابة والتقويم الدائمين.
أما العصمة
فللدستور الإسلامي الأعلى الذي يمثل ثوابت قطعية لا يتطرق إليها الظن أو الاحتمال،
ومن ثم فالسلطة في الإسلام بشرية المنشأ والطبيعة، دينية الاستمداد والمرجعية،
فليست دينية بالمعنى الكهنوتي، ولا دنيوية بالمعنى العلماني.
وهذا التناقض
الذي يبدو بين النظامين للوهلة الأولى سيزداد اتساعاً كلما أوغلنا في المقارنة
بينهما، وهو ما لا تتسع له مقالة كهذه، وحسبنا أن نقول ختاماً: إن العقل المسلم
مطالب ببذل مزيد من الجهد لإبداع نموذجه السياسي الخاص الذي يعبر عن معتقداته، غير
حبيس في قوالب التاريخ، ولا ذائب في أحماض الحضارية الغربية، وتلك المعادلة على
صعوبتها قابلة للتحقيق، وهي لازمة من لوازم النهوض والشهود.