حول جدلية الاستبداد والمؤسسية في التاريخ الإسلامي
يرى د. حسين مؤنس رحمه الله (1911 - 1996م) أن السبب في تكرار سقوط حضارات الدول الإسلامية أنها «لم تكن تقوم على مؤسسات، بل على أفراد، وهؤلاء الأفراد منقطعة صلاتهم بالأمة، وإذا انقطعت صلة الجماعة الحاكمة بالأمة وجمهور الناس أسرع إليها الجفاف؛ لتوقف الحركة والاتصال بين الجانبين».
ويضرب الأمثلة على ذلك، فيقول عن الدولة الأموية مثلاً: «كان الحكم يقوم على بني أمية، ويخدم مصالحهم، دون نظر إلى مصلحة الجماعة، أو احترام للقانون، أو لدماء الناس وأموالهم».
ويقول عن الدولة العباسية: «وقامت دولة بني العباس لخدمة البيت العباسي وحده، دون استشارة الأمة، أو رعاية مشاعرها، وفي سبيل ذلك اقترفت جرائم أخرى كثيرة، وانتهك الشرع والحرمات، دون أدنى مراعاة لمصلحة الجماعة أو مصالحها، وقل مثل ذلك في كل دول المسلمين التي قامت فيما مضى، كانت منشآت قبلية أو عائلية، وفردية أحيانًا، تقوم لخدمة منشئيها، معتمدة على رجالها، ومن ينضم إليهم من الأنصار والمؤيدين، واعتمادها في الغالب على العصبية القبلية، ثم الجند المرتزق»(1).
ونحن لا نبرئ هذه العصور من المظالم والأهواء، ولا ندعي العصمة لحكامها، لكن النظر المنصف إلى تاريخنا يرينا أن حكم الأسر والعصبيات كان سمة العصر الذي قامت تلك الدول فيه، فأوروبا البيزنطية حكمتها أسر وعصبيات متعاقبة: الأسرة الهرقلية، والإيسورية، والعمورية، والمقدونية، وآل كومنينوس.. وأوروبا الغربية أيضًا حكمها الميروفنجيون والكارولنجيون وآل كابيه.
أما القياس على ما نشهد في عصرنا الحديث من تنامي نزعات الحرية السياسية؛ فهو قياس يهمل تراكم الخبرة البشرية، ورصيد التجارب الإنسانية.
ويضطر د. مؤنس إلى الاعتراف بوجود مؤسسات كبرى في الدولة الإسلامية، لكنه ينسبها جميعًا إلى الأمة دون السلطة، فمؤسسة القضاء، هي مؤسسة الأمة لا الحكومة، لأن القضاة كانوا يتكونون في رعاية الأمة التي كانت ترعى التعليم في الكتاتيب والمساجد، ومنها يتخرج الفقهاء والقضاة، وهم الذين يضعون التشريعات، دون تدخل من الحكومة.
والجهاد في سبيل الله تحول خلال العصر العباسي إلى مؤسسة شعبية، فكان المرابطون في الثغور متطوعين، يعيشون على جهدهم، وبعونٍ قليل جدًا من الدولة.
وكذلك الشأن في مؤسسة الحسبة التي تراقب الأسواق، وكان أفرادها يُختارون من بين الفقهاء، وعمادهم الأكبر على الجمهور، لا على العدد القليل من الشرط أو الأعوان الذين تضعهم الدولة تحت تصرفهم.
وينتهي د. مؤنس (ص 176-177) في ذلك كله إلى نتيجة مؤداها: «الدولة لم تقم على مؤسسات، في حين قامت الأمة على مؤسسات، ومن هنا كانت الدول ضعيفة؛ والأمة بخير، رغم ما أصابها من مساءات الحكام ومظالمهم».
وهكذا يقود الحكم المسبق إلى تناقض مستحكم، بين القول بفردانية الحكم في التاريخ الإسلامي، مع الاعتراف بمأسسته لكنها مأسسة صنعها الأمة لا الحكومة، وأن هذا الانفصال بين الأمة الواعية والحكومات المستبدة هو ما سبب سقوط الدول المتكرر في التاريخ الإسلامي.
والحق أن الدور البارز للأمة في تاريخنا دليل حيوية الحضارة الإسلامية ونظمها، ووجود تواصل بين الأمة والحكومة على عكس ما أراد أن يدلل عليه.
ولعلنا في عصور تأخرنا التي نعيشها ندرك -أكثر مما يدرك غيرنا- قدرة الحكومات المستبدة المنفصلة عن أمتها على أن تعوق عمل المؤسسات المدنية الشعبية، أو تمنعها، أو تسخرها لمنفعتها الخاصة.
أما في الدولة الإسلامية، فكان الأمر أمر تعاون بين الأمة والحكومة، فالحكومة هي التي تعيِّن القضاة وتمنحهم مرتباتهم، وتوظف من يعينهم على أداء أعمالهم، ثم هي التي تنفذ أحكام هؤلاء القضاة، بل تنقاد إليه خلفاء وأمراء وولاة، ولولا سلطتها ما نفذت الأحكام، ولا قام العدل.
أما مؤسسات التعليم، فكانت قائمة في الأساس على الأوقاف الإسلامية، وقد احترمت الحكومات هذه الأوقاف وشروطها، لكن كثيرًا من العلماء كانوا يتقاضون مرتبات مالية من الحكومة الإسلامية؛ لتيسر لهم القيام بعملهم والتفرغ له.
وصحيح أن «الفقه الإسلامي كله من صنع الأمة دون تدخل من الحكومة»، وهذا مما يُذكر للحكومات في تاريخنا، والأدلة على تشجيعها الفقهاء، وغشيانهم مجالس الحكام، وانقياد الحكام لهم أكثر من أن تحصى.
والقول في الحسبة قريب من القول في القضاء، إذ إن الحكومة المسلمة كانت هي التي تعيّن المحتسب، وتحدد دخله المالي، وتوفر له الأعوان، وتيسّر له تنفيذ ما يراه صالحًا لأداء مهمته، وتضع الضوابط التي تحول دون تداخل سلطات المحتسب والقاضي وصاحب ديوان المظالم، حيث تتشابه في بعض الأحوال مهام عملهم.
أما الجهاد، فلم يكن ممكنًا دون حكومة تحدد مجالاته، وتدبر أمر جيوشه.
إن ثمة مؤسسات حكومية في تاريخنا، ينكر د. مؤنس وجودها، أو يهوِّن من شأنها، بينما يمتدح وجودها في دول الغرب آنذاك! فيمتدح وجود «مجلس العرش»، وقد «قام بوظيفة كبرى أطالت أعمار دول الغرب، وهي نقل الحكم نقلاً شرعيًا من الملك إلى الذاهب خلفه»، ويمتدح مؤسسة الكنيسة، بأنها كانت «تعطي البيت الحاكم شرعية، وتتوسط بينه وبين الناس، ولا تجعل الملك عضوضًا.. وكان هناك مجلس بلاط وجماعة النبلاء، وكان لكل منهم سلطان كبير.. مما كان يحد من سلطان الملك».
ثم يعقب على ذلك بقوله (ص 172): «في دول الشرق كان الأمر على خلاف ذلك.. وكان الخليفة أو الملك أو السلطان يحكم وحده دون مؤسسات جانبية، فإن أخطأ لم يجد من يصحح له خطأه، وإذا انحرف لم يجد من يقوِّم انحرافه».
وليس من النصفة أن نتحدث عن «مجلس العرش» وأمراء الإقطاع في النظم الغربية؛ ونهمل ذكر «جماعة أهل الحل والعقد» في المنظومة الإسلامية، وبالرغم من افتقاد شكل محدد لهذه الجماعة، فإن ذلك لا يلغي وجوها وأثرها، بل إن وقائع التاريخ تشهد أن مؤسسة أمراء الإقطاع التي يمتدحها د. مؤنس كانت لها سوءات ضخمة يصعب غفرانها، حيث مزقت المجتمع الغربي، وخلقت مآسي مروِّعة، وأدخلت مجتمعها في حالة من الجمود والفوضى، حتى وصفها ولز (معالم تاريخ الإنسانية 3/ 829) بقوله: «فلم يكن الأمر إلا فوضى واضطراباً نُظِّم على أخشن وجه»، وصحيح أن أمراء الإقطاع قلَّلوا من سلطات الملك، لكن صراعاتهم معه؛ وصراعاتهم فيما بينهم؛ أفقدت الناس الشعور بالأمن أو الاستقرار، وفككت الدولة الواحدة، واستقل كل منهم بما استطاع انتزاعه من الآخرين.
وقد امتدح د. مؤنس دور مؤسسة الكنيسة، وهو الدور الذي ثارت عليه أوروبا كلها في عصر النهضة، وقد كانت سلطة الكنيسة الواسعة سببًا في صراع دامٍ بينها وبين الأباطرة والملوك، وهو السمة البارزة في أوروبا طوال العصور الوسطى.
وكانت ثورة الأوربيين -التي بلغت أوجها في الثورة الفرنسية في القرن الثمن عشر– على السلطتين معًا؛ السياسية والدينية؛ المتمثلة في الكنيسة، وعبر عن ذلك فولتير بقوله: «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس»، ولم يعرف الإسلام هذه السلطة لرجال الدين، ولا هيئة مستقلة لهم، لكن دور العلماء السياسي في الحد من طغيان الحكام؛ أو الوساطة بينهم وبين الرعية؛ مشهور في الإسلام.
______________________
(1) الحضارة 169-170، سلسلة عالم المعرفة (1)، الكويت، 1978م