رسائل إلى إخواننا السوريين
مكتسباتٌ بلغتْ حدّ العظمة، لا يملك المرء تجاهها إلا التسليم بأنّ سورية تستقبل عهدًا جديدًا، يحمل الخير لها وللمنطقة كلها، وما كان لهذه المكتسبات أن تتحقق لولا أنّ الله منَّ على الثوار الأحرار بنعمة الصبر والرباط والإعداد، ثمّ بنعمة الفتح والنصر المبين، على نظام عجزت الكلمات أن تصف حجم الظلم والإجرام الذي كان يمارسه على شعبه.
الآن سورية صارت حرة، وصار للسوريين وطن يتسع لأحلامهم وطموحاتهم، لكنْ لا يصح أن نسترسل مع أفراح النصر متناسين أو متجاهلين التحديات الجسام التي تواجه الإدارة السورية والشعب السوريّ؛ فإنّ ما تحقق من إنجاز مفاجئ -أربك كل الحسابات- يُعَدُّ بالنسبة للكثيرين محلّيًّا وإقليميًّا ودوليًّا ضربة في الرأس؛ فليس من المتصور من حيث الأصل أن يتركوا سورية الجديدة تمارس حقها في التجديد وفي الانطلاق إلى الآفاق، وهذا ما يجب التركيز عليه.
لا تهاون مع الانفصاليين
أول ما يجب التنبه له مواجهة أيّ محاولة للانفصال عن سورية الجديدة في أيّ طرف من أطرافها بمنتهى الحسم والحزم؛ ليس فقط من أجل الحفاظ على وحدة التراب السوريّ، وإنّما لذلك ولأمر آخر أقدم وأقوم وأحزم، وهو أنّ أيّ شبر ينجح في نيل استقلاله تحت أيّ مبرر عرقيّ أو إثنيّ أو طائفيّ سيكون بمثابة الخنجر الناشب في خاصرة سورية إلى يوم الدين، وسيظلّ ينزف دمًا وقيحًا إلى أن ينتهي بالبلاد إلى البوار؛ يجب ألّا يُمْهَلَ كيانٌ من هذه الكيانات المدخولة تحت أيّ مبرر.
كما يجب أن تحتكر الدولة حقّ التسلح، وحقّ امتلاك أدوات الإكراه الماديّ، ولا يصحّ أن يضطرنا للتفريط في هذا المطلب الملحّ أيُّ تهديد مهما كان، سواء ما تعلق منه برفع العقوبات من عدمها، أو ما تعلق بالتهديدات الصهيونية، وإذا لم تستطع الإدارة الجديدة القضاء على التحالف النّكِد القائم بين قسد والعلويين فسوف يكون السكينَ الذي يذبح سورية الجديدة من الوريد إلى الوريد، وهذا أمر لا تهاون معه ولا تباطؤ في حسمه.
القصاص الناجز من أعداء الإنسانية
بأيّ طريقة يراها السوريون مناسبة، وبأيّ أسلوب يروق لهم ويتساوق مع ظروفهم؛ يجب إمضاء القصاص الناجز من أكابر المجرمين الذين خاضوا في دماء الناس وأعراضهم، وإذا كان العفو العام قد اتسع للجند ولصغار الضباط ممن لا تضيق عنهم احتمالات الإكراه وعدم الرضا عمّا اقترفوا من الإثم والعدوان، فإنّ القصاص العادل الناجز يجب أن يتسع فلا يفلت من وطأته إلا القليل النادّ، ممن لم تصل إليهم يد الثورة ولم تحط بهم عينها؛ ليس فقط من أجل تسكين خواطر المظلومين -وإن كان ذلك مقصدًا عاليًا- وإنّما لذلك ولأمر آخر أكبر وأخطر، وهو -بعد إقامة حكم الله- قطع دابر الفتنة التي تبقى مهددة للمجتمع ما لم تقطع الرأس التي تحمل السم الزعاف، والفرصة اليوم سانحة حيث إنّ العالم كله يعيش الدهشة والفزع مما كشفته الأحداث من فداحة الخطب وفظاعة الجرم.
المؤسسية سلوك عاصم من الفتن
قد لا تكون المؤسسات اليوم قادرة على إدارة المشهد؛ لأنّها لم تكن في الحقيقة مؤسسات، وإنّما كانت صروحًا للاستبداد والفساد، ومما لا شكّ فيه أنّ المرحلة مرحلة ثورة لا دولة، وللثورة قانونها الذي لا تسيغه المؤسسات، لكنّ المؤسسية سلوك إداريّ وأداء حضاريٌ ومنهاج إسلاميٌّ يستطيع أن يشقّ لنفسه القنوات التي تتسع لما لا تتسع له المؤسسات العريقة، وروح المؤسسية هي التجانف عن شخصنة القرارات، ودعاماتها هي الشورى واحترام التخصصات، مع استدامة مشاعر التجرد والإخلاص وهضم الذات.
ومن تأمل السيرة النبوية اندهش من رسوخ المؤسسية ورسوخ دورها في اتخاذ القرارات وتصريف المسؤوليات قبل نشوء المؤسسات، وعندما نشأت المؤسسات لم تتعسر -برغم بساطة تركيبها- ولم تتعثر.
إنّ القائد الحقّ هو ذلك الذي لا يخشى من الشورى ولا يرهب الآراء المعارضة، ولا ينفرد برأيه إلا فيما يرى أنّ الشورى تتسامح معه؛ لظرف يضيق عن التشاور كما يضيق عن مرور الجمل سمُّ الخياط، ومن هنا جاءت الشورى في التعبير القرآنيّ ملصقة بطبيعة المؤمنين، على هذا النحو: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).
مؤسسات المجتمع بجانب مؤسسات الدولة
لا تهمَلُ مؤسسات المجتمع إلا في أمّة لم تبلغ من النضج إلا بقدر ما بلغه الصبيّ الغرّ من الدراية بألاعيب الأسواق؛ ذلك لأنّ قوة المجتمع قوة للدولة، وهي أيضًا قوة ضد الدولة عندما تفسد وتتغول على حقوق الأفراد، فإذا كنّا اليوم نعاني مرحلة البناء لسورية الجديدة؛ فيجب أن يمضي الأمران على التوازي، بناء مؤسسات الدولة وبناء مؤسسات المجتمع، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنّ مؤسسات المجتمع يجب أن تكون أولًا، فالجمعيات الأهلية والأندية التي تمثل المهن المختلف، والنقابات والروابط العلمائية وغيرها من مؤسسات المجتمع تعدّ أصلاً وجذراً صالحًا لمؤسسات الدولة، وكلما توسعنا في بناء مؤسسات المجتمع، وكلما كانت مستقلة تدار بمؤسسية رشيدة؛ رَشَدَ الأداء المجتمعي وكان رشدُه منطلقًا للرشد في الأداء السياسيّ.
العودة ضرورة حضارية
ويبقى ذلك كله مرهونًا بعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، يجب أن يبكروا بالعودة، بعقولهم وعلومهم وخبراتهم وأموالهم وتجاراتهم ومشاريعهم واستثماراتهم وبركتهم ودفء اجتماعهم.
إنّ الآمال مرهونة بحامليها قبل كل شيء، فما قيمة الآمال والطموحات إذا كان أصحابها لا يقرّ لهم قرار، لم يعد هناك عذر، ها هي الأرض قد تحررت، وها هو الفزع قد زال وانقشعت غمامته، وها هي البلاد تنادي الزرّاع والصناع والتجار والمعلمين والمهندسين والأطباء والصيادلة والحرفيين من كل مهنة، فهلموا لتعمير البلاد الشامية؛ لتعود إلى سالف عهدها، وتستعيد سابق عزّها ومجدها، والله مولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.