حياة المسلم ليست أسيرة التحسّر والتمني

إن من أهم عوامل القلق الذي يفقد الإنسان
سكينة النفس وأمنها ورضاها هو تحسره على الماضي وسخطه على الحاضر وخوفه من
المستقبل.
إن بعض الناس تنزل به النازلة من مصائب
الدهر، فيظل شهوراً وأعواماً آلامها، ويستعيد ذكرياتها القائمة، متحسراً تارة،
متمنياً أخرى، شعاره: ليتني فعلت، وليتني تركت، وأني فعلت كذا لكان كذا! وقديماً
قال الشاعر:
ليت شعري وأين من «ليتُ»؟ إن «ليتا» وإن «لوّا» غناء
ولذا ينصح الأطباء النفسانيون والمرشدون
الاجتماعيون، ورجال التربية، ورجال العمل، أن ينسى الإنسان آلام أمسه، ويعيش في
واقع يومه، فإن الماضي بعد أن ولَّى لا يعود.
ما مضى فات، والمؤمل غيب ولك الساعة التي أتت فيها
وقد صور هذا المعنى أحد المحاضرين بإحدى
الجامعات بأمريكا تصويراً بديعاً لطلبته حين سألهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع
كثير من الطلبة أصابعهم، فعاد يسألهم: وكم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع
أحد منهم إصبعه، وعندئذ قال المحاضر: بالطبع لا يمكن لأحد أن ينشر نشارة الخشب،
فهي منشورة فعلاً، وكذلك الحال مع الماضي: فعندما ينتابكم القلق لأمور حدثت في
الماضي، فاعلموا أنكم تمارسون نشر النشارة!
وقد نقل هذا التصوير ديل كارينجي في
كتابه «دع القلق وأبدأ الحياة»، كما نقل قول بعضهم: لقد وجدت أن القلق على الماضي
لا يجدي شيئاً تماماً، كما لا يجديك أن تطحن الطحين، ولا أن تنشر النشارة، وكل ما
يجديك إياه القلق هو: أن يرسم التجاعيد على وجهك، أو يصيبك بقرحة في المعدة(1).
ولكن الضعف الإنساني يغلب على الكثيرين،
فيجعلهم يطحنون المطحون، وينشرون المنشور، ويبكون على أمس الذاهب، ويعضون على
أيديهم أسفاً على ما فات، ويقلبون حسرة ما مضى، وأبعد الناس عن الاستسلام لمثل هذه
المشاعر الأليمة، والأفكار السقيمة هو المؤمن الذي قوي يقينه بربه، وآمن بقضائه، وقدره فلا يسلم نفسه فريسة للماضي وأحداثه، بل يعتقد أنه أمر قضاه الله كان لا بد
أن ينفذ، وما أصابه من قضاء الله لا يقابل بغير الرضا والتسليم(2).
إن شعار المؤمن دائماً: «قدر الله، وما
شاء فعل، الحمد لله على كل حال»، وبهذا لا يأس على ما فات ولا يحيا في خضم أليم من
الذكريات، وحسبه أن يتلو قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن : 11)،
وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي
كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني
فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»(3).
فقد أمر المؤمن في هذا الحديث بالحرص على
ما ينفعه سواء في دينه أم دنياه، والاستعانة بالله على ذلك فهو الذي يهيئ له
الأسباب، ويزيل من طريقه العوائق، كما قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
وقال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده
ومن العجز المذموم هنا إلقاء الأحمال على
القدر والاحتجاج به في الإعفاء من المسؤولية، وقديماً قيل: من دلائل العجز كثرة
الإحالة على المقادير.
وحديثاً قال الشاعر الفيلسوف د. محمد
إقبال: المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي يعتقد أنه قدر الله
الذي لا يغلب وقضاؤه الذي لا يرد.
وقد روي أن بعض الصحابة -في زمن الفتوح
الإسلامية-سأله أحد قادة الفرس: من أنتم؟ وما حقيقتكم؟ فقال له: نحن قدر الله،
ابتلاكم الله بنا، وابتلانا بكم، فلو كنتم في سحابة في السماء لصعدنا إليكم، أو
لهبطتم إلينا(4).
إن من وصايا رسول الله صلى الله عليه
وسلم للمسلم إذا أصابه شيء من شدائد الدنيا وابتلاءاتها -وما أكثرها!- ألا يسلم
نفسه للتحسر والأسى على ما فاته، فيصبح ويمسي، وهو يمضغ كلمات الأسى والأسف،
ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا على سبيل التحسر والتمني، ويجتر الذكريات
الحزينة، بل أمره أن يرد الأمر هذا إلى قدر الله، ويسلم أمره وقضاءه قائلاً: قدر
الله وما شاء الله فعل، معتبراً أن الخير فيما اختاره له، ثم هو لا يقدر على غير
ذلك، وليتجه -بعد ذلك- للمستقبل ويعمل ويبني وينتج، لا إلى «اللَّولَوة» التي يقول
فيها «لو أني فعلت، ولو أني تركت»، فإن «لو» هذه «لو» المتمنية والمتحسرة تفتح عمل
الشيطان، وعمله ليس وراءه إلا الضياع والخسران(5).
___________________
(1) الإيمان بالقدر، يوسف القرضاوي، ص
97، دع القلق وابدأ الحياة، ديل كارنيجي، ص 173.
(2) الإيمان بالقدر، يوسف القرضاوي، ص
97.
(3) رواه مسلم (2664).
(4) الإيمان بالقدر، يوسف القرضاوي، ص
100.
(5) المرجع السابق، ص 101.