دور وسائل التواصل في صناعة محاضن تربوية جديدة
لم تكن ابنتي الصغيرة تجاوزت عامها السابع إلا بأيام وجيزة عندما حدثت جائحة كورونا واضطررنا وقتها مع إجراءات التباعد أن تخرج من الحلقة التي كانت تحفظ فيها القرآن، ولم أستطع أنا أن ألتزم معها بجدول ثابت للحفظ، حتى حدثتني صديقة عن أكاديمية لتعليم الطفل القرآن بدأت تتجه للتعليم عن بُعد عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي.
رحبت بالفكرة، وإن لم أكن على ثقة من أن طفلة صغيرة قد تتعلم بطريقة إلكترونية بعيداً عن التواصل المباشر، إلا أنني فوجئت حقاً بالنتيجة الرائعة، فالمعلمة تمتلك من المهارة ما جعل ابنتي تشعر أنها في تجربة واقعية تفاعلية حقيقية، فهي ترد وتسأل وتقفز وتصفق، فالجلسة لم تكن لتعليم القرآن فقط، فهناك وقت للترفيه ووقت للحوار ووقت للتدبر، حتى إن ابنتي تسألني وتناقشني فيما دار من حوارات مع انحياز طبعاً لرأي معلمتها التي أحبتها وتأثرت بها بشدة.
بالطبع هذه تجربة فردية، وربما لو التحقت ابنتي بالحلقة التي تديرها هذه المعلمة ذات المهارات العالية على أرض الواقع لكانت النتيجة أكثر وقعاً وتأثيراً، لكن الشيء المؤكد أن حسن استغلال منصات التواصل لصنع محاضن تربوية جديدة إذا تمت إدارته بطريقة احترافية كما حدث مع ابنتي فإنه سيُنتِج خيراً كثيراً.
حاجة حقيقية
الحقيقة المؤكدة أننا بحاجة لمحاضن تربوية جديدة، وأن وسائل التواصل تستطيع أن تقوم بدور «حصان طروادة» لتحقيق ذلك، فأولادنا في بلاد الغربة يكونون في كثير من الأحيان في أمسّ الحاجة لذلك، والظروف السياسية المعقدة في كثير من البلدان التي انتهجت نهج تجفيف المنابع بحاجة لذلك، كذلك الأبناء الذين يعانون من بعض الصعوبات في التواصل المباشر.
والأهم من ذلك كله أن طبيعة «عصر الرقمنة» تفرض ذلك، فهناك جاذبية منصات التواصل الاجتماعي التي لا تقاوم، التي تفرض وجودها وتشكل وعي الناشئة بالمحتوى الذي تقدمه، وما لم نمتلك مرافئ آمنة في خضم هذه الأمواج العاتية سوف يغرق أبناؤنا في دواماتها المتعددة.
المحاضن التربوية الجديدة التي ننشدها من منصات التواصل لا يمكن أن تكون بديلاً كاملاً للمحاضن التربوية الطبيعية، بما فيها من دفء التواصل وحرارة الواقع، وما فيها من تفاعل حي وتأثير حقيقي، لكن من الممكن أن تكون مكملة وداعمة لها، فهي تحقق مزيداً من التواصل، ومزيداً من التعلم، ومزيداً من التفاعل.
أما في الحالات الاستثنائية التي سبق أن ذكرت نماذج منها، فمع بعض الجهد والمهارات تستطيع هذه المحاضن الجديدة أن تحقق نتائج بالغة الإيجابية تكاد تطابق المحاضن الطبيعية.
ضوابط أساسية
على أنه من المعروف أن وسائل التواصل سلاح ذو حدين، فلقد صممت بطريقة تستهلك الكثير من الوقت، فالقائمون على هذه المنصات ما يشغلهم هو الربح، وأن يحتفظوا بالمستخدم أطول فترة ممكنة على منصاتهم.
وهنا المسألة تتجاوز إهدار الوقت للتعرض لمحتوى غير مناسب وغير لائق، بل وضار بتربية النشء، فمن المحتوى المنحرف أخلاقياً للمحتوى الذي يثير الشبهات للصداقات مجهولة الهوية، وكل ذلك في إطار صور من الجاذبية التي قد لا يمكننا منافستها.
كما أن الطفل والمراهق الغض الذي ما زال في طور التكوين لا يمتلك من التحصين والدفاعات ما قد يرد هذا الخطر عن نفسه، ومن ثم قد تنحرف البوصلة في اتجاه آخر تماماً عما كنا ننشده.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: هل امتناعنا عن صناعة محاضن تربوية جديدة عبر منصات التواصل الاجتماعي سيمنع الناشئة من استخدام هذه المنصات؟ والسؤال في صيغة أخرى: هل يمكن للمربي والوالدين منع الأبناء من استخدام منصات التواصل؟ وإذا نجح البعض في ذلك فما نسبة نجاحه؟
الحقيقة المؤكدة أنه لا يمكننا غلق السماوات المفتوحة، وليس هناك جدوى من محاولة ذلك؛ لأنه بطريقة أو بأخرى سيحتال الأبناء للكشف عن هذا العالم المجهول الذي قد يصبح أكثر إثارة بالمنع.
إن الرفض والمنع وسيلة العاجز أمام التحدي الكبير الذي يواجهه، والتخندق في حصون دفاعية ستأتي لحظة ويتفكك وينهار، وقد يكون رد الفعل عاتياً لا يملك أي أدوات الانضباط، فما الحل إذن؟
في رأيي، أن الحل يكمن في نقطتين أساسيتين؛ البديل والضوابط.
فبدلاً من ترك منصات التواصل الاجتماعي للمخربين، فإن صناعة محاضن تربوية جذابة سيكون بديلاً جيداً أو حتى منافساً حقيقياً، سيكون بمثابة مساحات آمنة نطمئن لوجود أبنائنا في ساحاتها.
الأمر الثاني وضع الضوابط والتحديد الكمي لوقت بقاء الأبناء على منصات التواصل، ومتابعة ما يتم على تلك الساحات الإلكترونية ومناقشة الأبناء فيه، كل ذلك في جو من الحب والإقناع لا القهر والاستبداد.
المحضن الناجح
لكن ما أهم الشروط اللازم توافرها حتى نستطيع القول: إن هذا المحضن الجديد الذي يستثمر منصات التواصل الاجتماعي محضن ناجح؟
ربما تكون هي نفس الشروط اللازمة في المحضن الطبيعي، ويأتي على رأسها وجود بيئة عاطفية دافئة بين النشء والمربي، فالمشاعر العاطفية هي الجذور العميقة التي تغوص في النفس البشرية وتجعلها تتقبل كل التوجيهات برضا وطيب نفس.
من المهم جداً أن يشعر الطفل أو المراهق أنه مهم ومقدر ويُستمع له، وأن المربي يسأل عنه ويتفقد أحواله، يكفي في هذا الصدد أن نعرف أن هذا المدخل (الاهتمام والتقدير) يتم استخدامه بواسطة بعض المتلاعبين للإيقاع بالضحايا على الشبكة الإلكترونية ومعظمهم من الناشئة.
والعلاقة العاطفية التي تسود أجواء المحضن التربوي قد تكون بديلاً لأي مشكلات عائلية عالقة يعيشها النشء خاصة في عصر ازدادت فيه هذه الخلافات حدة وشراسة.
ومن الأمور بالغة الأهمية التي ينبغي أن تتغلغل في قلوب الناشئة أن هذا الحب حب في الله تعالى مرتبط به، حيث إن بث حرارة الإيمان في القلوب الهدف النهائي لأي عملية تربوية، وفي الوقت ذاته الوسيلة الأساسية لبناء الشخصية الإيمانية.
يأتي بعد ذلك بناء الشخصية القوية بما تتمتع به من مهارات في التفكير وتأسيس معرفي مناسب وقدرة على حماية العقل من الشبهات، يضاف لذلك شرط خاص بالمحاضن الإلكترونية؛ وهي أن تكون آمنة سواء في محيطها الداخلي أو في وضع برامج خاصة للنشء لحمايتهم من المفاسد والأضرار التي قد يصطدمون بها عبر الشبكة الإلكترونية.