03 فبراير 2025

|

الحرب.. وحصاد الطفولة

مصطفى عاشور

28 يناير 2025

6203

الحرب مؤلمة، ومشاهدها مروعة، وذاكرتها باقية، وما تزرعه في النفوس يستمر لفترات طويلة، لكن تأثيراتها على الأطفال أخطر وأعمق وأبقى أثراً، فهي كالنقش على صفحات نفوسهم البيضاء.

في السنوات الأخيرة، شهد العالم ما يقرب من 110 صراعات مسلحة في أنحاء العالم المختلفة، وكان الأطفال من أكثر ضحاياها، سواء بفقد أهليهم، أو تعرضهم لحياة اللجوء والتهجير القاسية، أو لتعرضهم للقتل والإصابات والابتزاز بشتى أنواعه، وكذلك حرمانهم من التعليم والحياة الآمنة، وإصابتهم بالأمراض النفسية والعقلية بجانب الأمراض الجسدية.

تشير الإحصاءات إلى أن هناك ما يقرب من 449 مليون طفل يعيشون في مناطق الصراعات، وأن طفلاً من كل 6 أطفال في العالم يعاني من الآثار السلبية للحروب والصراعات؛ وهو ما يعني أن العالم ينتظر عشرات الملايين من الضحايا خلال السنوات القادمة، وهؤلاء سيشكلون عبئاً اجتماعياً وأمنياً وصحياً، ولن تمر تجربتهم المريرة في الحروب دون أن تدفع المجتمعات ثمناً فادحاً لها.

ففي العقد الأخير، ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، كان المدنيون يشكلون 90% من ضحايا الصراعات والحروب، وكان الأطفال يشكلون نسبة كبيرة من هؤلاء الضحايا، فالطائرات والدبابات لا تفرق بين طفل وكبير، ولكنها تحصد الجميع، كما جرى في غزة من مسح مناطق سكنية بأكملها وقصف خيام ومستشفيات، ناهيك عن الانتهاكات الأخرى التي يتعرض لها الأطفال، وتشير أرقام الأمم المتحدة إلى أنه في العام 2023م، كانت هناك 26 حرباً ونزاعاً مسلحاً، وتعرض 22557 طفلاً لـ32990 انتهاكاً، كان غالبيتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة والصومال وبورما ونيجيريا والسودان.

ومن تأثيرات الحرب على الأطفال سوء التغذية، وقلة الطعام، وتلوثه؛ وهو ما يؤدي إلى ضعف المناعة وتفشى العدوى والضعف العام، وظهور الأمراض الوبائية، تشير دراسة صدرت عام 2022م إلى أن هناك علاقة بين مرض الزهايمر؛ وهو الخرف، والصدمات التي يتعرض لها الصغار ما دون سن 18 عاماً، فالصدمات النفسية لها ارتباط بالزهايمر، ومعاينة الأطفال للحرب والدمار والأشلاء والقصف العشوائي من أكبر تلك الصدمات النفسية. 

كذلك هناك تأثير للحرب على التعليم من خلال تدمير البنية الأساسية للتعليم، من مدارس، وتسريح المعلمين، وحياة اللجوء غير المستقرة لهؤلاء الأطفال، وتحمل الكثير من الأطفال أعباء الحياة القاسية في حال فقد الأب في الحرب، وفي العام 2023م صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن في العالم ما يقرب من 78 مليون فتى وفتاة لا يذهبون للمدرسة بسبب الصراعات والكوارث والنزوح، وهذا رقم مخيف.

وللحروب والصراعات تأثير على صحة الأطفال، فهي تدمر للطفولة ذاتها، تشير دراسة استمرت 9 سنوات وصدرت عام 2020م عن أخطار الحروب على الصحة الإنجابية، أخذت الدراسة مما جرى في غزة عام 2006م نموذجاً لتلك التأثيرات خاصة تلوث البيئة بالمعادن الثقيلة بسبب الأسلحة، وهو ما يؤدي إلى تشوهات الأجنة، وإصابة الأطفال بالسرطان، وانتشار العيوب الخلقية في الولادات. 

وأكدت الدراسة زيادة تلك المشكلات في الفترة من عام 2006 حتى 2011م، وأكدت الدراسة أن معظم المعادن الثقيلة من مسببات السرطانات وتشوهات الأجنة، وأن تلك المعادن تبقى في البيئة لمدة طويلة، وتأثيراتها شديدة على الإنسان خاصة الأطفال، حيث تؤدي إلى تشوهات مزمنة.

وتشير الدراسات النفسية أن الحروب تعرض الأطفال لما يسمى «الإجهاد السام»، فالأطفال الذين يتعرضون لتوتر دائم ومستمر دون أن يجدوا الرعاية، تنتج أجسامهم استجابات لهذا التوتر قد تلازم هؤلاء الأطفال طيلة حياتهم، وهذا الإجهاد يعطل التطور الصحي لبنية الدماغ وأنظمة الجسم الأخرى؛ ما يزيد من خطر الإصابة بالأمراض في مرحلة البلوغ، وأن نجاة الأطفال بحياتهم من الصراعات، هو بداية لمعاناة نفسية وجسدية جديدة، وربما دائمة كالأمراض النفسية والجسدية والعقلية.

وفي دراسة صدرت عام 2020م، أكدت أن الأطفال في الشرق الأوسط في مناطق الصراع يعانون من صدمات ما بعد الحرب، ومن الأرقام المفزعة التي ذكرتها الدراسة أن الحرب في سورية أدت إلى أن يعيش 2.5 مليون سوري حياة اللجوء، وأن أطفال فلسطين لا يستطيعون أن ينجوا من جحيم الصراع في فلسطين في ظل الحصار «الإسرائيلي».

وأكدت الدراسة أن الإجهاد السام يمكن أن يعطل نمو المخ ويزيد من الأمراض النفسية والتدهور الإدراكي والعاطفي، وقد تستمر هذه التأثيرات بعد انتهاء الحرب، والأخطر أن الأطفال في مناطق الصراع يتعرضون لوساوس الانتحار والأحلام المفزعة والتبول اللاإرادي والتأتأة والرهاب والسلوكيات العدوانية، وأكدت أن الفقر يستمر بعد توقف الحرب، وهو ما يعني أن انتهاء الحرب بداية لمشكلات أخرى أكثر حدة.

ويلاحظ أن اللامبالاة يصاب بها عدد غير قليل من الأطفال الذين يعيشون في مناطق الصراع، فكثرة مشاهدة الدماء والدمار والأشلاء تضعف استجابة هؤلاء الأطفال وتصيبهم باللامبالاة، وقد تفقدهم الإحساس بالآخرين، ويصبح منطق النجاة بالنفس هو المسيطر على هؤلاء، أي أنها تخلق حالة من الفردية والانعزالية الشديدة التي تنعكس على روابط المجتمع وأواصره.

وقد نجح كتاب «طفولة الحرب: أصوات من سراييفو» للبوسنوي جاسمينكو خليلوفيتش، الصادر عام 2024م، في تجميع اقتباسات 1100 شخص ممن شهدوا في طفولتهم الحرب في البوسنة والهرسك، فقد استمر حصار سراييفو 1425 يومًا؛ وكان أطول حصار في التاريخ الحديث، وتم فيه تدمير المدارس والمستشفيات والمكتبات والمتاحف والمباني الدينية، كما أنشا خليلوفيتش متحفاً أسماه متحف طفولة الحرب عام 2017م، وهو المتحف الوحيد في العالم الذي يركز على تجربة الطفولة المتأثرة بالحرب، وكأن الكتاب والمتحف يقولان: إن الحرب تنقلنا إلى عالم لا ينبغي أن تعيش فيه الطفولة، فالأطفال ينتقلون من اللعب والابتسامة إلى عالم القسوة والقتل دون أن يدركوا السبب في استبدال عالمهم الجميل بهذا الواقع الأليم.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة