سؤال اقتصادي محوري.. من قام بطهي عشاء آدم سميث؟

كيف تحصل على عشائك؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يطرحه علم الاقتصاد، وقد يبدو السؤال سهلاً إلا أنه معقد في حد ذاته.

إن أكثرنا ينتج نسبة يسيرة من الأشياء التي يستهلكها كل يوم ويقوم بشراء الباقي، مثل الخبز الموضوع على الأرفف في المتاجر، والكهرباء التي تمر عبر الأسلاك عند تشغيل المصباح، ومع ذلك فإن الحصول على رغيفين من الخبز وكيلوواط واحد من الكهرباء يتطلب تنسيق نشاطات آلاف من الناس حول العالم.

ومن هؤلاء الناس الفلاح الذي يزرع القمح الذي يباع بدوره إلى المخابز، والشركة التي تبيع الحقائب التي يعبأ فيها الخبز، والمخابز التي تبيع للمتاجر الكبرى التي تبيع لك الخبز، كل هذا لا بد أن يتم حتى يكون الخبز متوافرًا على الرف صباح كل يوم، ثم لا بد أن يكون هناك من يبيع الأدوات للفلاحين، ومن ينقل المواد الغذائية إلى المتجر، ومن يقوم بعمل صيانة للسيارات، ومن ينظف المتاجر الكبرى ويخرج البضائع من صناديقها.

ويجب أن تتم هذه العملية من جميع نواحيها في الوقت المحدد، وبالترتيب المناسب وبالطريقة الصحيحة وبشكل كافٍ حتى لا تكون أرفف المتاجر خاوية، وهذا لا يتم من أجل رغيف خبز فقط، ولكن أيضًا من أجل أي شيء آخر يمكننا التفكير في شرائه أو بيعه.

السؤال المنسي: من طهى عشاء سميث؟

تقول كاترين ماركيل في كتابها «من قام بطهي عشاء آدم سميث قصة عن النساء والاقتصاد»: عندما حصل آدم سميت على عشائه، لم يكن بسبب حب الجزار والخباز له، فقد كانا يحققان منافعهما الخاصة عبر المقايضة، إنها المنفعة الخاصة التي وضعت العشاء على طاولة آدم سميث، فهل كان الأمر كذلك حقاً؟ ومن الذي طهى شريحة اللحم التي تناولها في عشائه؟

إن آدم سميث لم يتزوج قط، وعاش «أبو الاقتصاد» معظم حياته مع أمه، فكانت أمه تعتني بالمنزل بينما تولى أحد أبناء عمومته شؤونه المالية، وعندما عين آدم سميت مفوضًا في مصلحة الجمارك في إدنبرة، انتقلت والدته معه وأمضت حياتها في رعاية ابنها، وهي تمثل جزءًا من إجابة السؤال الخاص بكيفية حصوله على العشاء، وهي الجزء الذي حذفه آدم سميث من إجابة السؤال.

الاقتصاد الخفي.. دور النساء غير المرئي

ثم تؤكد كاترين: وفي الوقت الذي كتب فيه آدم سميث ما كتبه وحتى يتمكن الجزار والخباز من الذهاب إلى عملهم، كان على زوجاتهم أو أمهاتهم أو شقيقاتهم أن يقضين الساعة بعد الساعة، واليوم بعد اليوم في رعاية أطفالهم، وتنظيف منازلهم، وطهي طعامهم، وغسل ملابسهم، فمهما كانت نظرتك إلى السوق، فإنه يعتمد دائمًا على اقتصاد آخر، اقتصاد نادرًا ما نتناوله بالحديث والنقاش.

تقول كاترين: لقد نجح آدم سميث في الإجابة عن نصف السؤال الأساسي الخاص بالاقتصاد فقط، ولم يحصل على عشائه لمجرد أن التجار خدموا منافعهم الخاصة من خلال المقايضة التجارية، وحصل آدم سميث على عشائه؛ لأن والدته كانت تصنعه وتضعه على الطاولة كل مساء.

الحب أم المنفعة الخاصة؟

وتؤكد كاترين أن علوم الاقتصاد الحديثة تتسم بالتعقيد، ومن ثم يتساءل الاقتصاديون: ما الذي يبقي كل هذه النشاطات في حالة من التماسك والاتساق؟ وقد وصف علم الاقتصاد بأنه علم كيفية الحفاظ على الحب، والفكرة المحورية هي أن الحب نادر.

ولذلك ينبغي لنا الحفاظ على هذا الحب ولا نستهلكه دون داعٍ، فإذا قمنا باستهلاك الحب في إدارة مجتمعنا، فلن يبقى منه شيء لحياتنا الخاصة، لهذا السبب فكر الاقتصاديون أننا في حاجة إلى تنظيم المجتمع حول شيء آخر بخلاف الحب.

إذن، فلماذا لا نستخدم المنفعة الخاصة بدلاً من الحب؟ ويبدو أن المنفعة الخاصة تتحقق في تلك المقايضة؛ لذا، ففي عام 1776م كتب آدم سميث، أبو علم الاقتصاد، الكلمات التي كونت فهمنا الحديث للاقتصاد: «نحن نحصل على غذائنا من الجزار، ومن الخباز وكذلك الضروريات الأخرى، إلا أن هؤلاء لا يفعلون ذلك من منطلق حبهم لنا، ولكن من أجل خدمة منافعهم الخاصة من خلال هذه المقايضة».

اليد الخفية وقود الاقتصاد

لقد حكى لنا آدم سميث قصة السوق الحرة، ولماذا كانت الطريقة المثلى لخلق اقتصاد فعال، وكانت أفكاره حول الحرية والاستقلالية تعد راديكالية بعيداً عن الالتزامات والواجبات واللوائح المنظمة، وحسبما يرى فعندما يسمح للسوق أن تكون سوقًا حرة، سيدور الاقتصاد مع المنفعة الخاصة كالساعة باعتبارها وقودًا لا ينضب، ومع عمل الجميع لتحقيق منافعهم الخاصة، سيتمكن الجميع من الحصول على السلع التي يحتاجونها.

تقول كاترين: بالنسبة للبداية الأولى لعلم الاقتصاد، يبدو من الواضح أن المنفعة الخاصة هي التي جعلت العالم يتحول ويغيّر اتجاهه وتوجهه، وقد كتب الاقتصاديون في نهاية القرن التاسع عشر أن «المبدأ الأول في علم الاقتصاد هو أن كل فرد يتصرف وفقًا لمنفعته الخاصة»، حيث إن علم الاقتصاد هو تاريخ الأساليب التي نتصرف وفقًا لها في موقف معين من أجل تحقيق الأرباح المالية وما يستتبع ذلك من فرضيات.

ثم تقول كاترين: وعبارة اليد الخفية هي الأكثر شهرة في علم الاقتصاد، وآدم سميث هو من صاغ هذا المصطلح، وقام الاقتصاديون الذين جاؤوا من بعده باستخدامه على نطاق أوسع، فاليد الخفية تلمس كل شيء، وتوجه كل شيء، وتوجد في كل شيء، وتقرر كل شيء، ولكن ليس بوسعك أُن تراها أو تشعر بها، إنها تتدخل في كل شيء قلبًا وقالبًا، إنما تلمس كل شيء وتحركه وتتبدى كذلك في أفعال وخيارات الأفراد وفيما بينهم، إنها اليد التي تدير النظام من الداخل.

وهذا المفهوم كان أكثر أهمية بالنسبة للاقتصاديين اللاحقين مما كان عليه بالنسبة لآدم سميث نفسه، وقد ذكر أبو الاقتصاد السياسي هذا المصطلح مرة واحدة فقط في كتابه «ثروة الأمم»، ولكنه يعتبر حاليًا الأساس الذي بني عليه علم الاقتصاد الحديث وعالمه الاستثنائي.

اليد الخفية والقلب الخفي

واليوم، يتم التنويه أحيانًا إلى أن الاقتصاد لا يتم بناؤه بـ«يد خفية» فقط، إنما يتم بناؤه بـ«قلب خفي» أيضًا، ولكن ربما تكون هذه صورة مثالية أكثر مما ينبغي، بالنسبة للمهام التي وقعت على عاتق النساء تاريخيًا بتكليف من المجتمع.

ونحن لا نعرف لماذا اعتنت والدة آدم سميث بابنها، إنما كل الذي نعرفه أنها قد فعلت ذلك.


الخفافيش الاقتصادية.. إطلاق المارد من القمقم!

المرأة والاستهلاك.. رؤية اقتصادية


_____________________

للتواصل: zrommany3@gmail.com.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة