غزة.. و«حلف فضول» معاصر

د. مجدي سعيد

28 سبتمبر 2025

631

 

بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، كان على القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة أن تثبت للعالم أنها صارت القوة العظمى الوحيدة في العالم، كما كان عليها أن تختلق لنفسها عدواً جديداً تمارس عليه قوتها وتفرض عليه هيمنتها، وهنا جاءت لها أحداث 11 سبتمبر 2001م لتخلق المبرر لها لتدشين حربها الجديدة التي توجهت هذه المرة إلى العالم الإسلامي تحت دعوى «الحرب على الإرهاب» بغزوها لأفغانستان.

وربما لأن العالم كان مصدوماً خاصة بعدما تتالت توابع زلزال 11 سبتمبر في بلدان غربية أخرى، لتعمل أكثر على شحذ الرأي العام العالمي خلف تلك الحرب الغربية الجديدة.

لكن ومع بدايات عام 2003م، كانت القوى الغربية تستعد لحربها الثانية التي كانت تلك المرة على العراق في قلب العالم العربي والإسلامي، وكانت الدعاوى هذه المرة تتمثل في وجود أسلحة دمار شامل فيه.

لكن هذه المرة كان الرأي العام العالمي قد بدأ يستفيق، فمع استعداد إدارة بوش وحلفائه لشن حرب على العراق، خرج ملايين الناس في الولايات المتحدة وحول العالم إلى الشوارع للتحذير من الكارثة الوشيكة، وكان هذا الحراك يمثل أكبر موجة احتجاج مناهضة للحرب في التاريخ، وهو الحراك الذي وصفه الأكاديمي والناشط الأمريكي المناهض للحرب ديفيد كورترايت، في عنونته لكتابه الذي أصدره ليوثق ويحلل هذا الحراك بـ«قوة عظمى سلمية» (A Peaceful Superpower).

وقد كان هذا الحراك الذي استثاره غزو العراق، يتوازى مع نشوء «حركة التضامن العالمية مع فلسطين»، التي شجعت متطوعين من بلدان العالم المختلفة ليعبروا سلمياً على تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وعلى أرض غزة سالت دماء شباب من هؤلاء أمثال الأمريكية ريتشل كوري، والبريطاني توم هيرندل.

ومع بدايات حصار غزة والعدوان على لبنان عام 2006م، بدا أن الكيان الصهيوني هو أداة القوى الغربية في إثبات قوتها وفرض هيمنتها على قلب العالم العربي والإسلامي، وهنا اكتسبت حركات مناهضة الحرب والعولمة قوة دفع جديدة، التي كان من تجلياتها «حركة غزة حرة» التي بدأت أول أسطول من أساطيل الحرية لكسر حصار غزة، والذي توازى معه قدوم قوافل برية لكسر الحصار، كما توالى تدفق الوفود الطبية على غزة خاصة مع بداية العدوان الصهيوني عام 2008-2009م.

تنامي المقاطعة

ومع توالي الاعتداءات الصهيونية على غزة، كانت كل أشكال الحراك هذه مستمرة، وزاد عليها تصاعد نفوذ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة عالمياً باسم «BDS» في الانتشار في أوساط شباب الجامعات حول العالم، وفي أوساط المثقفين، حتى اعتبرها الكيان الصهيوني «تهديداً إستراتيجياً» له، وبدأ يوعز لحكومات العالم بحظر الحركة ووصمها بما يسمى بمعاداة السامية.

هذا الحراك الذي كان يزداد وينقص وفق درجة سخونة الأحدث وبرودتها، كأنه بذرة تخرج شطأها ليتآزر مع مر السنين، ليؤتي أكله مع الحرب الصهيونية الحالية التي بدأت يوم 7 أكتوبر 2023م، وطالت دولاً عدة في الإقليم، لكنها كانت كالزلزال الذي فجّر القوى الكامنة في الشعور لدى شعوب العالم، ففعل ما لم تفعله كل الأحداث السابقة منذ عام 2003م، وليفوق في اتساعه وعمقه ما وصف بأنه قوة عظمى سلمية.

فما شهدناه منذ أيام في إيطاليا، وقبله في إسبانيا، وجميع عواصم العالم، وما يشهده البحر المتوسط في قافلة الصمود التي تضم 50 سفينة من 44 دولة، على الرغم من الاعتداءات المتكررة على مثل تلك القوافل، وكذلك ما شهدته غزة من توافد القوافل الطبية والغذائية ما استطاعت إلى الوصول سبيلاً، وانعطاف النخب الغربية ضد الصهيونية ودعماً لفلسطين وغزة أمر غير مسبوق في التاريخ في حجمه وعمقه.

كل ذلك الحراك الإنساني العالمي الهائل يستلزم منا أن نتذكر ما ورد في السيرة النبوية حول «حلف الفضول»، الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ووصفه في حديث له بقوله: «لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»، ويستدعي منا أن نفكر في كيفية تكوين «حلف فضول معاصر» يستجيب للظلم والعدوان الذي تمارسه قوى الغرب، وللدعم غير المحدود الذي تتلقاه الصهيونية من الحكومات والقوى الرأسمالية العالمية.

وعلينا أن ندرس ردود القوى المعتدية على هذا الحراك، فالمعركة على هذا الحراك مشتعلة كما هي على غزة والضفة وعلى دول المنطقة، وكيف سيتم التصرف إزاء ما يحدث على أرض تلك المعركة.

عقل إستراتيجي

لا يغريننا ما أبدته حكومات كانت وما زالت داعمة للكيان عسكرياً واقتصادياً من اعتراف بالدولة الفلسطينية بعد ما يقرب من عامين من حرب الإبادة على شعب غزة، فالحقيقة التي يعرفها هؤلاء المعترفون أن الشعب الفلسطيني لم يمكن من إقامة دولته منذ ما يعرف باتفاقية «أوسلو» واتفاقيات السلام التالية عليه، وما زالت «إسرائيل» تحتل الضفة الغربية، بل وتسعى لإخلائها حالياً وزيادة الاستيطان فيها، كما أنها لم توقف عدوانها بعد هدم كل شيء في غزة تقريباً، وقتلت أكثر من 65 ألف إنسان، أغلبيتهم العظمى من المدنيين.

وكل هذا يحدث على أرض تلك الدولة التي يقولون: إنهم اعترفوا بها، ولا شك أن موجات الاعتراف هذا هي محاولة لإيهان عزيمة الشعوب عن مواصلة حراكها الداعم لغزة وفلسطين.

وأخيراً، إننا بحاجة لعقل إستراتيجي للأمة يفكر ملياً ويدرس بعمق كيف يدير معركته ضد أعدائه في أوساط الرأي العام العالمي، فهذا واجبنا كشعوب وكأمة.

صحيح أن هذا الحراك العالمي ربما لا يكون له تأثير قوي على أرض المعركة الدائرة على أرض فلسطين بشكل مباشر، إلا أنه بلا شك سيكون له أثر أكبر ومتصاعد مع استمرار الحرب والعدوان والصلف والغرور الصهيوني والأمريكي من خلفه، الذي اعتبر أن ما يجري منذ 7 أكتوبر «معركة وجودية».

ومن ثم فليس من المنتظر أن تنتهي كما انتهت الحروب السابقة على غزة، إلا لتقوم من جديد، والله من ورائهم محيط، وعلينا كأمة أن نفعل في تلك المعركة ما نستطيعه كأفراد وكشعوب، كل في موقعه، وفيما يحسنه، فكل ميسر لما خلق له.



اقرأ أيضاً:

التحالفات في السياسية الشرعية ومقاصدها

«أسطول الصمود» يتعرض لهجمات.. ويواصل مهمته الإنسانية نحو غزة

«أسطول الصمود العالمي»: سننصر غزة بعدما خذلتموها

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة