كيف تقود العلمانية الغربية للتوحش الكامل؟

د. عمرو نافع

24 سبتمبر 2024

2870

يعود مصطلح «العلمانية» (Secularism) لجذور تاريخية تعود لحروب أوروبا الدينية المندلعة منذ القرن السابع عشر، وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة التي انتقلت فيها السلطة للدولة المدنية بعيداً عن هيمنة الكنيسة.

ويفرق العلامة الراحل د. عبدالوهاب المسيري في موسوعته «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» بين أسلوبين لفهم العلمانية؛ فهناك من يحصرها بفصل الدين عن السياسة والاقتصاد، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وهي علمانية لا تعادي المنطلقات الدينية والأخلاقية، ولكنها لا ترغب في إقحامها في شؤون الدنيا الخاضعة للتجريب.

وهناك العلمانية الشاملة التي تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم بمجالات الحياة، وترى أن المادة فقط هي ما يمكن بها تفسير الأشياء وهي مركز الكون، وهي نتاج لعصور تطورت فيها العلمانية ذاتها مع ظهور الدولة القومية والاستعمار الأوروبي وزيادة الإنتاج وتآكل المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة، وشيوع الفكر النفعي الخالي من القيم، واتجاه السلوك العام نحو الاستهلاكية الشرهة، وصولاً لمرحلة ما بعد الحداثة وشيوع الشركات عابرة القوميات وظهور ظواهر الشذوذ الجنسي والأسرة النووية وإساءة استخدام العلم في مجالات الطب والبحث العلمي، وغيرها من الظواهر.

لقد وصلت الدولة العلمانية ومؤسساتها التربوية والترفيهية والإعلامية إلى وجدان الإنسان، وتغلغلت في أحلامه وسلوكه وقوضت ما بقي من أخلاقيات دينية أو حتى إنسانية!

حين التقت الاشتراكية والليبرالية

يلفت المفكر المسيري لحقيقة التقاء الفلسفات الغربية في جوهرها المادي، مهما اختلف السطح، فالاتحاد السوفييتي الغارق في شيوعية شاملة سارع بمجرد سقوطه لتبني قيم الليبرالية والسلع الأمريكية بشره شديد، والولايات المتحدة الأمريكية التي كانت لا تزال تسمح بحرية العقيدة والتبشير والدعاية الدينية البروتستانتية، سقطت حتى النخاع في العلمانية والإلحاد بفضل توسع عمليات التصنيع والتمدن وتسليع كل شيء حتى الإنسان، وهي صناعة أمريكية بامتياز وتم تعميمها لأنحاء العالم فيما يسمى بـ«الأمركة»، فأصبح ماكدونالدز وبيبسي وهامبرجر، والإعلانات الجنسية، وأفلام الحرب، ونمط الحياة الأمريكية، والأغاني والأدب المرتبط برداءة الواقع وليس المثل العليا، هو الشكل الأكثر شيوعاً في العالم، وبرغم كل ما يسكنها من نظرة عنصرية منحازة ضد العالم الثالث والعرب والمسلمين بالتحديد.

لقد فككت ظاهرة العولمة أوصال العالم، وأوصال البشر حرفياً، مع زحفها الاستعماري، وظهور نخب متغربة في العالم الثالث تحكم من خلال القمع، تؤازرها الدول الغربية (الديمقراطية العلمانية)، أو بظواهر مثل النازية والصهيونية التي قامت بتفكيك الإنسان البولندي والروسي واليهودي في أوروبا والإنسان الفلسطيني في شرقنا العربي، وبحيث لا يمكن الفصل بين تاريخ العلمانية وتاريخ الاستعمار الغربي الحديث.

بين النموذج النازي والصهيوني!

إن العلمانية الحديثة هي تجلٍّ لاختفاء القيمة واختفاء المقدس من حياة البشر، وتمجيد السلعة والمادة فحسب، وهو ما أدى لحوسبة كل شيء بتعبير المسيري، ومن هنا يربط المسيري بين ما جرى ليهود أوروبا قديماً حين تم التعامل معهم كقطع بالية يجب التخلص منها وترحيلها بمنطق «الترانسفير» لبلدان الشرق، وما يفعله الصهاينة اليوم المدعومون من أمريكا حين يهجّرون الفلسطينيين ويبيدونهم.

كما يربط المسيري بين معسكرات التعذيب وغرف الحرق النازية، وما يلقاه الفلسطينيون اليوم على يد نازيي العصر الصهاينة من اضطهاد وإبادة واعتقالات تتم عبر موظفين باردين يؤمنون بضرورة تلك الخطوات المنهجية لأمن «إسرائيل» ابنة الاستعمار الغربي؛ أي أن المسألة عقلانية من وجهة نظرهم لا علاقة للعواطف بها، ولا للتاريخ نفسه لأنهم ببساطة يطمسونه لتحكم نظرية الأقوى في الغاب الداروينية.

في كتابه الأشهر «الحداثة والهولوكست» يربط عالم الاجتماع الإنجليزي من أصل بولندي زيجمونت باومان بين الحداثة وسقوط القيم، مع تزايد النسبية الكاملة والمطلق الديني، ما أدى للتمحور حول الجسد وغياب أي معيارية من تصرفات البشر، بل ترشيد أداتي لا ينشغل إلا بالإجراءات وليس الغاية، تماماً كما سعى النازيون لإبادة المتخلفين عقلياً والمعاقين عن طريقة «القتل الرحيم» قبل أن ينفوا غرف الغاز لخنق اليهود، لأنهم جميعاً فئات غير نافعة!

وربط البعض بين القوى العلمانية التركية السائدة إبان حكم أربكان بتلك النزعة، فقد انقلبت عسكرياً على خيار الشعب لحزب إسلامي معتدل، وهو حزب الرفاه، وتحولت هنا القوى العلمانية لأكبر معاد للديمقراطية، فأصبحت علمانية فاشية، حتى عادت كفة الموازين للاعتدال لاحقاً.

ويلفت المسيري لملمح مهم وهو تأثير العقلية البراجماتية الغربية على النخب السياسية العربية خلال العقود الماضية، فقد تحولت معها مسألة فلسطين من قضية أرض تم انتزاعها من أصحابها ومنحها لليهود الذين ارتكبوا مجازر مروعة وهدم، لتتحول القضية لاسترداد حدود عام 1967م، أصبحنا نتنازل شيئاً فشيئاً، وأصبح الحديث مختلفاً بعد اتفاقية «كامب ديفيد»، وقد أخذا شكلاً اقتصادياً وليس عروبياً، حتى أصبح الأمل هو وقف إطلاق النار على الأبرياء وعدم التوسع في بناء المستوطنات.

إننا إذ نتأمل «إسرائيل» سنرى أنها مجرد تطبيق عملي للإمبريالية الغربية، التي دأبت على إبادة الملايين ونهب خيراتهم في أفريقيا وأمريكا اللاتينية لأجل مصالحها، فالصهيونية حركة علمانية داروينية حولت اليهود والفلسطينيين لمادة استعمالية لتحقيق أغراضها، كما فعلت في فيتنام والبوسنة والشيشان وكل الأدوار التي قادتها المخابرات الأمريكية.

العلمانية من الداخل

لم تحمل العلمانية أبداً حلم السلام والعدالة والمساواة كما تدعي؛ فالثورة الفرنسية كانت حقبة العنف المقدس، وجيوش نابليون لم تكن تفعل في بلدان الشرق غير الدمار والقتل، وكذلك الإنجليز وإمبراطوريتهم التي نهبت خيرات الشعوب واستعبدتهم، والثورة البلشفية التي أفرزت ستالين في روسيا، وهكذا كانت النظم العلمانية حول العالم.

ويفرد المسيري في موسوعته لنماذج بائسة أفرزتها العلمانية ومنها: البطل السنغافوري (حيث تحوله لبطل إنتاج وسوق شرهة للاستهلاك)، والبطل التايلاندي حيث تحوله لقوة جنسية يمكن تسويقها، وأخيراً البطل بالمقاييس الصهيونية حيث القوة الغاشمة المادية المجردة من كل قيمة، الذي يقرر إبادة الآخر في معسكراته.

وقد خلق الاستعمار بمنطق «الترانسفير»؛ أي الإنسان المؤمن بالانتقال وعدم الولاء للثقافة وللمكان، خلق جيوباً تابعة له في كل مستعمراته القديمة، فنقل الصينيين لماليزيا، واليهود لفلسطين، ويهود أيضاً للأرجنتين، وبذلك فهو يحرك الفائض البشري الذي لا يرغب فيه لتحقيق مصالحه.

ولقد تطورت فكرة الانتقال واللا ثبات لتشمل حتى جنس البشر، فأصبح الذكر يتحول لأنثى والعكس، وأصبحت الدعوة لاختيار حر للشريك فيتزوج الرجل من رجل مثله والمرأة من امرأة، وهكذا سقطت البشرية في مستنقع الشذوذ عن أي قيمة أو فطرة.

وهكذا أسقطت العلمانية الشاملة البشر واعتبرتهم مادة خام وعمالة رخيصة وأسواقاً مضمونة لصالح الجنس الأقوى والأرقى في نظرها الاستعماري المتحيز، وشجعت تقسيم العالم لدول قومية صغيرة ثم قسمتها وأثارت النعرات لتحكم هيمنتها، في الوقت الذي رفعت فيه من معدلات الاستهلاك والطلب على الأسواق ونشرت الأمركة التي انتهت معها خصوصية الثقافات وفرادة البشر، وشجعت فكرة الإشباع الفوري للغرائز وخارج المنظومات التقليدية، فأمريكا في جوهرها تنكر الإنسان وتقدس المادة، وواجبنا هو مواجهة العلمانية بمشروع متكامل نعبّر فيه عن هويتنا العربية الإسلامية المنفتحة والحضارية والأصيلة في الوقت ذاته ونغرسه في الأجيال القادمة.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة