الأمل.. وزنزانة بيجوفيتش!

سيد حمدي

21 يناير 2025

3742

 

 

يحسب للأديب السعودي عبدالرحمن منيف، أحد أعمدة السرد العربي في العصر الحديث، أنه ركز في أعماله الأدبية على القيم الأساسية للنفس البشرية وعلى رأسها قيمة الحرية، وفي أكثر من عمل ربط بين الحرية ومخاصمة السجون، وكانت له فلسفة خاصة عند تعريف السجن، ينفي فيها أن السجن جدران وجلاد ومحض تعذيب بدني فقط، بل إن السجن في الأساس خوف ورعب يملأ قلب السجين بمجرد علمه بمصيره، قبل أن يدخل بين جدرانه الأربعة!

هذا الخوف والرعب الذي تتشبع به روح الإنسان الذي قدر له أن يكون بين أربعة جدران لا يمكنه من تعديل سلوكه فضلاً عن تعزيز الإبداع، كما تدعي الجهات القائمة على السجون، بل إن تعزيز الخوف والرعب هدف أصيل لديها، يندرج تحت حزمة الأهداف الأمنية التي تتمحور حول تأمين المؤسسة المخولة بالعقاب لا سيما فيما يعرف بالسجون شديدة الحراسة!

والحق يقال: إن السجن تجربة مؤلمة وقاسية على النفس لمن ابتلي به، حيث يفقد الإنسان حريته، وتتراكم لديه المشاعر السلبية التي تتجلى في سلوكه بأشكال وصور مختلفة من أبرزها الغضب والتصرفات العدوانية والتفكير في الانتحار، لكن الأمل الذي يملأ قلب السجين قد يكون هو الشعلة التي تضيء ظلام الزنزانة، والوقود الذي يغذي بداخله طاقة إيجابية تمنحه القوة اللازمة لمواجهة الصعوبات والتحديات مهما بلغت.

تشير كتب التاريخ إلى أن تجربة النازيين في السجون من أسوأ التجارب البشرية، وقد أورد د. محمد عز الدين توفيق في كتابه «التأصيل الإسلامي للدراسات النفسية» قصة الطبيب النمساوي فيكتور فرانكل، الذي كان معتقلاً في معسكرات النازية!

معلوم أن هتلر قام هو وحزبه في إطار الاستعداد للسيطرة على العالم، قتل أكثر من 60 مليون إنسان؛ وإنشاء معتقلات تضم كل المخالفين لتوجهات الحزب، ومعهم المجرمون، وذوو الأعراق المنبوذة كالغجر والشواذ، وذوو الإعاقة الذين يلتهمون من قوت البلد دون مردود فعلي على اقتصاده في أسلوب يتنافى مع أدنى درجات الإنسانية!

شهدت معتقلات النازية شتى أنواع التعذيب النفسي والبدني، ووفقاً للمعطيات الموجودة، الأصل ألا يبقى إنسان على قيد الحياة.

كان السؤال الملح على المعتقل الذي يدعى فيكتور فرانكل، الذي درس الطب النفسي وأبدع فيه: ما الذي أبقى بعض المساجين على قيد الحياة، ولا سبب واحداً يساعد في أن يكونوا أحياء في حين قام البعض الآخر بالانتحار؟!

وخلص الرجل، في كتابه «الإنسان يبحث عن معنى»، إلى أن السبب الأبرز في بقاء الإنسان متمسكاً بتلابيب الحياة رغم ما يلقاه من أذى نفسي وجسدي يفوق الوصف يتمثل في الأمل، فكل سجين قاوم التحديات كان يؤمل نفسه بلقاء زوجته وأبنائه وأصدقائه ومن أحبهم قبل أن يدخل السجن!

ولقد قضى العملاق علي عزت بيجوفيتش سنوات عديدة في سجون الشيوعيين، فلم يضعف عزمه ولم يلن، بل أشبع روحه بالأمل وتحدى نفسه واليأس الذي يحيط به، وينشره المثبطون من حوله وألَّف كتابه الماتع «هروبي إلى الحرية» الذي يعبر فيه عن طموحاته وآماله حينما تكتب له الحرية!

وإذا أردت أن تقف على المعنى النقي للأمل، فتعرف عليه من خلال 6 سجناء فلسطينيين حكم عليهم بالسجن المؤبد، من بينهم زكريا الزبيدي، ومحمود العارضة، ووضعوا في سجن جلبوع شديد الحراسة، الذي يخضع لرقابة مشددة ويحتوي على مجسات تكتشف الاهتزازات داخل السجن، لكنهم لما تمسكوا بالأمل اندفعوا إلى العمل وتحولت الملعقة في أيديهم إلى معول هدم جبار، وقرروا تنفيذ خطة محكمة للهروب، وهربوا، وأثبتوا للعالم أن لا شيء يُدعى الخيال، فكل أمر هو حقيقة إذا ما مر على العزيمة الفلسطينية الجبارة، وما ورد من تمثيل في المسلسل الفلسطيني «الروح» يصبح حقيقة في فيلم «الهروب من سجن جلبوع».

صحيح أن الأمل هو الذي يدفع المقهور سواء كان طليقاً أو مسجوناً على احتمال واقعه المزري، ويجعله متمسكاً بخيوط الحياة الواهنة، لكنه وحده ليس كافياً، فكثير من الناس اغتالتهم جرعات الأمل الزائدة، لكن الأمل يلزمه علم المبتلى بالسجن أن المصائب والمحن اختبار له من الله الحكيم، شديد المحال، وتربية له على السراء والضراء، لاستخراج العبودية على كل حال، وقد توهب الحرية من رحم السجن كما هي الحال مع سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

ولن يكون الأمل مجدياً فعالاً إلا بالاستعانة بالله، واللجوء إلى حماه، حتى يشعر بمعية الله في ظلمته، ومن جهة أخرى، فإن يقين المرء بحسن الجزاء وعظم المثوبة عند الله على ابتلاء يصيبه من أكثر ما يهون من شدة المصاب على القلب، وكلما اشتد اليقين في القلب؛ تضاءل الإحساس بألم المصيبة، وحظ المبتلى بمصيبة السجن ما يحدث له، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط له السخط، والفالح من صبر ونال جزاء الصابرين، واختار لنفسه خير الحظوظ!


كلمات دلاليه

تابعنا

أحدث المقالات

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة