كيف ننتقل من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة؟

يقول الله تعالى:
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2)، ويقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، فكلما كانت نفس الإنسان أكثر اتساقًا مع حقيقة كونها
خُلقت للعبادة ومعرضة للابتلاء؛ سهل عليها فعل الطاعة وشق عليها إتيان المعصية.
تركيبة النفس
النفس بطبيعتها
يتجاذبها شقان؛ شق طيني أرضي وهو الذي منه خُلِقَت وفيه أرذل صفاتها وسيئ طباعها،
وهو الذي تميل إليه، وشق نوراني وهو الذي يجذبها إلى بارئها وفيه ترفعها عن أراذل
الصفات، وارتقائها عن المستقبحات حسًا وشرعًا.
والنفس بطبيعة
الخلقة ميالة إلى الكسل والدعة، وما لم يحملها صاحبها بلطف من الله عز وجل وتوفيقه
ويحاسبها ويؤدبها، لربما لبثت في طبعها الطيني ما شاء الله تعالى لها أن تلبث ولم
يحصل لها من سطوع نور الحق على جنباتها سوى النزر اليسير.
رياضة النفس
يلتفت الكثير
منا إلى الظاهر سواء في أنفسنا أو غيرنا مع غفلة واضحة عن الباطن، ومن مظاهر ذلك
الاهتمام برياضة الجسد والغفلة عن رياضة النفس، وإن تشابهت الرياضتان لفظًا فهما
متغايرتان بالكلية معنى، فأما رياضة الأول فتكون بممارسة التمارين الرياضية
المختلفة، وأما رياضة الثانية فتمارينها الذكر والخلوة والصوم وغيرها مما تجده في
كتب التزكية، وليس هذا المقال محل بسط الكلام عليها.
السبيل إلى النورانية
من فضل الله
علينا أن جعل سبل الوصول إليه بعدد أنفاس خلقه، وكل ميسر لما خُلق له، لكن لا يعني
هذا الاتكال على المكتوب، بل كما يمرن الإنسان عضلاته برفع الأثقال بانتظام
واستمرار عليه أن يمرن نفسه على فعل الخيرات وترك المنكرات ليرفع عنها غشاوة
المعاصي وحجب الآثام حتى يسطع عليها نور الله سبحانه.
ومن السبل إلى
ذلك:
1- المحاسبة:
وهي كما عرفها
العلَّامة البلالي في «قوت الإحياء»: «تفقد ما مضى وما يستقبل»، وبتعبير آخر هي
وقفة مع النفس لمعرفة ما لها وما عليها فيما مضى وفيما هو آت، وما لها هي خصالها
الحميدة التي ترغب في الحفاظ عليها والاستزادة منها والترقي فيها، ومن أمثلتها:
الكرم، والصبر، وحسن الخلق، والشجاعة.
وأما ما عليها،
فصفاتها المذمومة التي في جبلتها كالبخل وحب الدنيا والكسل والغضب، ومقاومة تلك
الصفات هو عين رياضة النفس، وثمرة تلك الرياضة اضمحلال تلك الصفات حتى كأنها لم
تكن، والموفق من استطاع إلى ذلك سبيلًا، أما الإذعان لسفاسف الأخلاق تحت مسمى
الطبع، و«أني هكذا» و«من يحبني يقبلني على ما أنا عليه» فهو من تلبيس إبليس، نعوذ
بالله من الخذلان.
2- تعوُّد الخيرات يدفع المنكرات:
يقول الإمام
الغزالي في إحيائه: «إن تعود الجوارح للخيرات حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة
من المعاصي، فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبًا، سبق لسانه إلى ما
تعوده فقال: أستغفر الله».
3- التعلم بدلًا من التخبط:
يقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ
بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، ومَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ
يُوقَهُ»، والسبيل إلى تزكية النفس يبدأ بتعلم كيفية تزكيتها.
ومن الطرق إلى
ذلك:
- نصيحة الإمام
الحداد: قال قُطب الدعوة والإرشاد الإمام عبدالله بن علوي الحداد (ت 1132هـ): أول
ما ينبغي أن تُطالع كتبُ الإمام الغزالي على قدرِ حالك، فإن كنتَ من المبتدئين فـ«بداية
الهداية»، وإلا فـ«الأربعون في أصول الدين»، وإلا فـ«المنهاج»، فإن كان لك معرفة
وفهمٌ في العلم فطالع في «إحياء علوم الدين»، فإن كنتَ لا تعمل بـ«بداية الهداية»
فقل في نفسك: لا شكّ إذا لم أقدِر على العمل القليل فلا أقدِر على الكثير.
وقال: وعليكم
بمطالعة «قوت القلوب» للشيخ الإمام أبي طالب المكي، فإنه كتاب جامع نافع، وكان
الشيخ السُّهْرَوردي صاحب «عوارف المعارف» يُسمّيه «ديوان الإسلام»، وهو من أجمع
الكتب وأنفعِها في فنه بعد «إحياء علوم الدين».
- ترتيب مقترح
من د. سامي معوض: «بداية الهداية» للإمام الغزالي، «رسالة المعاونة والمُظاهرة
والمُؤازرة» للإمام الحداد، «النصيحة الكافية لمن خصّه الله بالعافية» للشيخ زروق
الفاسي، «تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس» المنسوب لابن عطاء الله السكندري، «شرح
الحِكم العطائية» للشرنوبي، «إيقاظ الهمم في شرح الحكم» لابن عجيبة الحَسني، «الأربعون
في أصول الدين» للإمام الغزالي، «قواعد التصوف» للشيخ زروق، «إحياء علوم الدين»
للإمام الغزالي.
وأهم نصيحة في
التعلم هي التدرج والتأني، وربما يحب القارئ أن يقفز مباشرة إلى إحياء الإمام
الغزالي متأثرًا بقول الإمام النووي: «من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء»، لكن
قد يعسر عليه فهم كثير مما فيه، ومفتاح فهمه قراءة ما سبقه والتدرج في سلم تعلم
التزكية، ليتدرب الإنسان أثناء ذلك على التدرج في ترقي أحوال النفس، فكما أن العلم
لا يؤخذ دفعة ولا يُسقاه الإنسان فكذلك حال النفس لا تتبدل في يوم وليلة، بل هي
مجاهدة ما كتب الله لتلك النفس أن تعيش في هذه الدنيا، وما توفيقها في تلك
المجاهدة إلا بالله تعالى.