9 معينات للانشغال بالنفس وتهذيبها

في زمن زاد فيه الخوض في أعراض الناس، والبحث عن عيوبهم والانشغال بها، وزاد فيه القيل والقال، أصبح من الصعب أن تجد من ينشغل بأحوال نفسه عما سواها، فيبحث بداخله ليصلح ما قد فسد مع كثرة عوامل الإفساد المحيطة به من كل جانب، فالصالحون لا ينشغلون بكثرة الضجيج من حولهم، بل يوجهون بصرهم إلى الداخل حيث المعركة الحقيقية بين النفس والهوى، وبين القلب والشيطان، تلك المعركة الأبدية التي لا تتوقف، هناك ينأى المسلم بنفسه عن الغير محاسباً نفسه، ليصلح الفساد ويغرس التقوى، منطلقاً من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة:105)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنَّ في القلب مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (رواه البخاري، ومسلم).

يقول الحسن البصري: يا بن آدم، إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك، فإذا فعلت ذلك كان شُغْلَك في خاصة نفسك، وأحبُّ العباد إلى الله مَن كان هكذا.

ويقول الإمام أبو حاتم بن حبان: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن مَن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يُتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه، هان عليه ما يرى مثله من أخيه، وإن مَن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه، عمي قلبُه، وتعب بدنه، وتعذَّر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أَعْجَزِ الناس مَن عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومَن عاب الناس عابوه.

الانشغال بالنفس من أهم العبادات القلبية

للعبادات القلبية في الإسلام أهمية كبيرة، ودرجة عالية، وهي الأعمال التي محلّها القلب؛ مثل الإخلاص، الخشوع، التوكل، الخوف، الرجاء، والرضا.

والانشغال بالنفس يدخل فيها من باب المحاسبة والمراقبة، لأن العبد حين ينصرف إلى عيوبه ويجتهد في إصلاح نفسه، فهو في عبادة دائمة، وفي تعهد النفس بالإصلاح والانشغال بعيوبها والاهتمام بأعمال القلب وتعبده لله عز وجل.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (أخرجه مسلم)؛ وهي محطُّ نظر الرب جل في علاه إلى هذا القلب؛ قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 89)، وكان الحسن البصري يقول: رحم الله عبدًا شغله عيبه عن عيوب الناس، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه» (رواه الترمذي).

وللانشغال بالقلب ثمرات تعود على الفرد بالخير الكثير، منها أنه يعرف قدر نفسه فيتواضع لله عز وجل، ويتواضع للخلق ولا يغتر، فهو يرى نفسه في حاجة للإصلاح المستمر والرقابة الدائمة، ثم إن الانشغال بها يطهر القلب من أمراض القلوب المعروفة مثل الغل والحقد والحسد تجاه الآخرين.

كذلك الانشغال بالنفس يقوي صلة العبد بربه، فالمراقبة لا تنتج إلا خيراً وتمنع الوقوع في المعاصي والذنوب في السر والعلانية.

أما أثره على المجتمع؛ فيبني مجتمعاً متماسكاً يركز فيه أفراده على تحسين أنفسهم فتقل النزاعات والصراعات والخلافات؛ ما يعزز التماسك الاجتماعي، وينتج عنه مجتمع أكثر إنتاجية، هذا غير الشعور بالاطمئنان والرضا الناتج عن عدم النظر للآخرين ومتابعتهم.

الانشغال بالنفس لا يعني التوقف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والانشغال بالنفس هو عين الاستقامة على طريق الحق، ومن أداء الحق ومن الاستقامة الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فلا بد من هذا، فلا يكون مُستقيمًا إلا إذا أدى هذا الواجب.

وقد أخبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيروه أوشك أن يعمّهم الله بعقابه»؛ وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة: 71)، وقوله سبحانه: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).

وعن أبي سعيد الخدري أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).

كيف نحقق الانشغال بالنفس؟

وككل الأخلاقيات الإيجابية، والسلبية، يمكن أن تكتسب، ويمكن أن يتم التخلي عنها، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان: 3)، وهناك إجراءات يجب على المسلم القيام بها ليتحلى بتلك الصفة، ومن هذه الإجراءات:

1- الدعاء، فالإنسان ضعيف بذاته قوي بالله تعالى، فليدعُ المسلم لنفسه أن يعينه الله على إصلاح نفسه والانشغال بها دون غيرها.

2- أن يعرف أن نفسه التي بين جنبيه ربما تكون هي عدوه الأول إن لم يتعهدها بالمحاسبة والرقابة والتهذيب.

3- أن يخالف هوى نفسه ويجبرها على اتباع الوازع الإيماني بها.

4- أن يكون ديدين المسلم الاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان الرجيم وسيطرته على الإنسان ووسوسته حين تضعف النفس.

5- دراسة سير الصالحين من الصحابة والتابعين، ومن قبلها دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم للتأسي والاعتبار والتعلم والاتباع، فيقول تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21).

6- إدراك ثمرة الانشغال بعيوب النفس لإصلاحها، فاستحضار الأجر، يساهم في الإقبال على العمل.

7- مصاحبة الصالحين، فالمرء على دين خليله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير» (رواه البخاري، ومسلم).

8- المواظبة على قراءة كتاب الله كورد يومي وعدم التهاون في ذلك مهما كانت الظروف، والاستعانة بقراءة كتب الرقائق مثل «إحياء علوم الدين» للغزالي، وكتاب «الدنيا والدين»، و«مدارج السالكين».. وتلك التي ترقق القلب وتهذب النفس وتعين على العبادة القلبية.

9- الذكر المستمر، وهو من مجددات الإيمان ويساعد بشكل كبير في تهذيب النفس، وهو من أحب العبادات إلى الله وأخفها، عن أبي الدرداء قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ذكر الله عزَّ وجلَّ» (رواه الترمذي).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة