كيف يمكن استدامة الرأي العام لمناصرة غزة والضغط على الكيان الصهيوني؟

د. السنوسي محمد

16 نوفمبر 2025

205

لا يخفى على المراقب أن وقف الحرب على قطاع غزة، أوائل أكتوبر الماضي، قد جاء نتيجة عدة عوامل، أهمها صمود غزة صمودًا أسطوريًّا جعلها تتصدى لآلة الإبادة الصهيونية، التي لم تتوان لحظة عن القتل بدم بارد، وتدمير كل مظاهر الحياة.

هذا الصمود الغزاوي، مقاومةً وشعبًا، هو على رأس العوامل التي أوقفت مسلسل الإبادة وخطط التهجير، وفضحت حقيقة الكيان الصهيوني العدواني، حتى تشكَّل من ذلك رأيٌ عام عالمي استطاع أن ينصف القضية الفلسطينية ويعيدها للصدارة إنسانيًّا ودوليًّا، كما استطاع أن يبطل الرواية الصهيونية التي تعودت أن يكون سحرها دائم المفعول، ولا ينجح شيء في تعريتها وكشف أكاذيبها.

وكان لافتًا في هذا الصدد، ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لرئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، في اتصال هاتفي، إثر إعلان قبول وقف إطلاق النار: إن «إسرائيل» لا يمكنها محاربة العالم.

رأي عام داعم متصاعد لغزة

وقد تمثلت مظاهر هذا الرأي العام المؤيد لغزة، وللقضية الفلسطينية برمتها، في عدة أمور، منها المظاهرات التي انطلقت في دول كثيرة، بمجرد مرور أشهر قليلة على بدء العدوان على غزة؛ فسرعان ما تبدَّدت لحظة الإجماع الغربي المؤيد للكيان، بفعل وحشية العدوان الصهيوني وافتضاح أكاذيبه، مثل ما ردده زورًا عن حوادث الاغتصاب وقطع الرؤوس!

ثم امتدت هذه المظاهرات وتواصلت على مدار عامين، حتى شملت العواصم الغربية الكبرى، التي مثَّلت دوائرُ القرار السياسي فيها داعمًا تقليديًّا للكيان، مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ولم تفلح كل المحاولات لتشويه هذا الحراك الشعبي العالمي الداعم لغزة، المندِّد بالكيان الصهيوني.

وفي جولة مهمة توسَّعت مساحات التأييد الشعبي لغزة وامتدت إلى داخل أعرق الجامعات الأمريكية، حتى شهدنا محاولات مستميتة لتشويه الحراك الطلابي والضغط على المشاركين فيه، بل وفصل بعض الطلاب وتهديدهم في مستقبلهم العلمي، وكانت جلسة الاستماع لرئيسة جامعة كولومبيا أمام لجنة في الكونجرس الأمريكي مشهدًا مهينًا وحدثًا فارقًا في الاعتداء على الحريات الأكاديمية.

ثم جاء «أسطول الصمود» الذي بدأ في الانطلاق، أواخر أغسطس 2025م، بمشاركة ناشطين من جنسيات متعددة، ليكون ذروة تصاعد الرأي العام المؤيد لغزة؛ خاصة أن شهادات المشاركين فيه عن السلوك العدواني من الكيان تجاههم -أثناء الاعتقال والاحتجاز حتى الترحيل- مثَّلت شهادات مهمة حية دعَّمت الرواية الفلسطينية، وكشفت عن إجرام متأصل في الكيان الصهيوني يجعله لا يلتزم بحقوق الإنسان ولا يرتدع عن الإساءة والاعتداء حتى على مواطنين غربيين.

والسؤال هنا: كيف يمكن استدامة واستثمار هذا «الرأي العام» الذي تشكَّل خلال عامين، لمناصرة غزة والضغط على الكيان الصهيوني؛ خاصة وأنه قد اتضح الآن بأن وتيرة الحرب العالية، أي الإبادة، قد توقفت، لكن الحرب لم تتوقف؛ وأن الكيان ماضٍ في المزيد من خروقاته دون رادع، بل ويجعل من استئناف الحرب سيفًا مصلتًا على غزة حتى من دون سبب، وهو لن يعدم الأسباب على أية حال!

توثيق الجرائم الصهيونية وتوظيفها إعلاميًّا وقانونيًّا

وأول ما يمكن عمله لاستدامة الرأي العام المؤيد لغزة يتمثل في كشف وتعرية جرائم الاحتلال الصهيوني وإبادته الجماعية، بشكل يحقق التوثيق اللازم، مع توظيف ذلك إعلاميًّا وقانونيًّا.

والتوظيف الإعلامي يكون من خلال الشهادات الحية للغزيين، بما يطلع الجمهور على حقيقة الوضع الإنساني الكارثي الذي خلّفه الاحتلال، وأن تهتم وسائل الإعلام بإبراز ذلك، وليس فقط بمتابعة غزة كشأن سياسي.

والتوثيق القانوني يكون من خلال تدعيم ملف جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، بأبرز الانتهاكات والجرائم، إضافة إلى العمل على رفع قضايا من أفراد في الدول التي تقبل محاكمها قضايا من هذا النوع، بجانب تدعيم المؤسسات الحقوقية مثل «مؤسسة هند رجب».

وكمثال بارز في هذا الصدد، ذكر د. منير البرش، مدير عام وزارة الصحة بغزة، أن الاحتلال الصهيوني أفرج عن 30 جثة لأبناء غزة بحالة مروعة وكانت هي الأصعب بين دفعات الجثامين؛ فمعظمها ممزق أو محترق أو مكبَّل بالحبال، وبعضها كانت عليه آثار تعذيب ودهس بآليات عسكرية، وبعضها دُفن مسبقًا ثم أعيد إلى الثلاجات قبل تسليمها، وبعضها لم يتبق منهم العظام والأسنان.

كما صرح د. غسان أبو ستة، رئيس جامعة غلاسكو في إسكتلندا، لقناة «الجزيرة»، وبعد اطلاعه على صور جثامين، أن الاحتلال سرق أعضاء من أجساد الأسرى الفلسطينيين في السجون «الإسرائيلية»، شملت القلب والرئتين والكبد والكلى والقرنية، وأن الصور توضح سلامة أجساد الأسرى فيما عدا الأعضاء المسروقة.

ومن جانبها، كشفت نافي بيلادي، رئيسة أممية سابقة للتحقيق في الأراضي الفلسطينية و«الإسرائيلية»، عن جريمة أخرى، تمثلت في أن الاحتلال وبقذيفة واحدة أطلقها على عيادة الخصوبة (البسمة)، في ديسمبر 2023م، أباد في لحظة واحدة 4 آلاف جنين داخل العيادة؛ موضحةً أنه لا يمكن للمجتمع الدولي أن يلتزم الصمت إزاء حملة الإبادة الجماعية التي تشنها «إسرائيل» في غزة.

فمثل هذه الجرائم والمواقف ينبغي توثيقها وتوظيفها إعلاميًّا وقانونيًّا؛ حتى لا يفلت الكيان الصهيوني من العقاب، وحتى يطلع الرأي العام على جرائم كيانٍ كان ولوقت قريب يزعم أنه واحة الديمقراطية بالمنطقة، والأكثر أخلاقية بين جيوش العالم!

إبراز الوضع الإنساني في غزة

الوضع الإنساني في غزة يحتاج أن يبرز بشكل إنساني، لا التعامل معه كأرقام إجمالية، فهذا الأمر يعكس بدقةٍ وبتفاعلٍ حقيقة الوضع الكارثي، كما يجعل الغزيين يشعرون بأن هناك من يشاركهم أوجاعهم.

إن حالة واحدة لشهيد أو مصاب أو مفقود يتم إبرازها كقصة إنسانية، يمكن أن تكون خير عنوان لهذا الملف الذي يحتوي على أكثر من 250 ألف قصة! بل لكل شهيد أو جريح أكثر من قصة، والحرب إذا كانت توقفت فالآلام ما زالت لم تبرأ، والجراحات لم تشف، والقلوب الكسيرة لم تجد من يمسح عنها أحزانها.

وبفضل ما استطاع أن يشق طريقه للجمهور، ويفلت من حصار الإعلام الغربي والصهيوني، رأينا غربيين يعبّرون وبالدموع عن وقوفهم المتأخر على حجم القتل والتدمير في غزة، وأنهم كانوا ولوقت طويل أسرى لرواية واحدة تجعل من الضحية مجرمًا.

مواصلة «أسطول الحرية والصمود»

وأيضًا من المهم العمل على تسيير المزيد من قوافل «أسطول الحرية والصمود»، حتى ولو لم تنجح في كسر الحصار الجائر على غزة؛ فإن رسالة الأسطول تتحقق بمجرد انطلاقه، وتكون هذه الرسالة ذات شقين؛ أحدهما يصل سندًا ودعمًا لأهل غزة، والآخر فضحًا للرواية الصهيونية وللإعلام المتواطئ معها؛ وتكون المحصلة بمجرد انطلاق الأسطول هي مزيد من الرأي العام الداعم لغزة.

كذلك ينبغي عقد المزيد من الندوات والمؤتمرات مع استمرار المظاهرات، في مختلف الدول، وتدعيم هذه الفعاليات بما يوثق جرائم الاحتلال، ويرصد الوضع الإنساني، ويكشف التواطؤ الغربي.

فهذه الفعاليات صوت حر لغزة التي يراد كتم أنفاسها وإخماد جذوتها، وبعض مَشاهد هذه الفعاليات تدلنا على بقايا الخير في الشعوب، مثل إصرار سيدة مقعدة على المشاركة في المظاهرة بل وتتعرض للاعتقال، بل إن الاعتداء الذي يقع على بعض هذه التظاهرات، يفضح حقيقة الديمقراطية الغربية، ويجعل الإنسان الغربي الواعي يدرك أن غزة لم تصبح فقط عنوانًا على حرية شعب يقع تحت الاحتلال، وإنما أصبحت أيضًا عنوانًا على تحريره هو من قبضة الحكومات المتواطئة وسيطرة الإعلام المزيِّف للحقيقة.

نعم، غزة تحتاج لاستمرار الدعم، بمختلف أشكاله، وهي بعد الحرب -التي هي مستمرة بوتيرة أقل، ولا يُستبعد تصاعدها- أشد حاجة لمن ينصرها ويدعمها ولو بكلمة واعية أو موقف شريف.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة