متى يكون الصمت ذنباً؟

في زمنٍ تتقلب فيه المواقف، وتُختبر فيه المروءات، يظن بعض الناس أن الصمت عن الظلم نوع من الحكمة، أو موقفُ حيادٍ محمود، بينما هو في الحقيقة خيانة، وجريمة في حق المظلوم، وتخاذل عن نصرة الحق.

لقد أصبح شعار «لسنا طرفًا في الصراع» ذريعة للهروب من مسؤولياتنا الدينية والإنسانية، حتى إذا عُذّب المظلومون، وشُرّد الأبرياء، وقُتل الأطفال، اكتفى البعض بالمشاهدة، أو الصمت المريب! فمتى يكون الصمت مذموماً؟

حفظ اللسان في زمن وسائل التواصل الاجتماعي |  Mugtama
حفظ اللسان في زمن وسائل التواصل الاجتماعي | Mugtama
اللسان نعمة من نعم الله عز وجل على الإنسان، به يتواصل مع الآخرين، ويعبر عن نفسه واحتياجاته
mugtama.com
×

1- الصمت عن نصرة المظلوم:

في صحيح البخاري عَنْ ‌أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌انْصُرْ ‌أَخَاكَ ‌ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»، فمن رأى مظلومًا يُقهر، أو إنسانًا يُهان، أو بريئًا يُعذَّب، ثم صمت ولم يناصره، فقد خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وشارك في الظلم بسكوته.

2- الصمت في موطن يجب فيه البيان:

من سُئل عن موقف شرعي، أو شهد حقًا، أو علم ظالمًا، ثم كتم علمه وسكت عن الشهادة، أُثِم عند الله تعالى، حيث قال عز وجل: (‌وَلَا ‌تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: 283)، فقد أكدت الآية الكريمة أن كتمان الشهادة إثم من الآثام، بل إن الله تعالى أمر من يعلم الحق أن يبينه للناس ولا يكتمه، حيث قال عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ‌لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187).

ونهى عز وجل عن كتمان الحق وتوعد فاعله باللعنة، إلا إذا تاب وبيّن الحقيقة للناس، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة).

3- الصمت عند انتهاك الحرمات:

تتنوع الحرمات التي يجب عند انتهاكها أن يفزع المسلم ويعلن رفضه لذلك، ومن هذه الحرمات: التعدي على الكتاب والسُّنة أو الانتقاص منهما، أو التعدي على النبي صلى الله عليه وسلم، أو على مقدسات المسلمين، أو عند ارتكاب المحرمات جهرة وعلانية.

روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ ‌مُنْكَرًا ‌فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، فمن رأى المنكر فإن تغييره واجب عليه بحسب الاستطاعة، فإذا كان مستطيعاً للتغيير باليد وجب أن يفعل، وإلا أنكره بالكلام، وهذا تستطيع الأمة أن تقوم به.

ولهذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة التي نزعت منها هذه الاستطاعة تعد من الأمم الضائعة، حيث روى الحاكم في المستدرك بسند صححه الذهبي وتابعه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُ أُمَّتِي تَهَابُ فَلَا تَقُولُ ‌لِلظَّالِمِ ‌يَا ‌ظَالِمُ فَقَدْ تُودِّعَ مِنْهُمْ»، فالأمة التي تصمت عن إنكار المنكر وفضح الظلم، لا تستحق بقاءً، ولا تُرجى لها كرامة.

لا نامت أعين الجبناء |  Mugtama
لا نامت أعين الجبناء | Mugtama
الكاتب: عبدالقادر عثمان حافظ والصلاة والسلام...
mugtama.com
×

4- الصمت عن قول الحق:

روى أحمد في مسنده بسند صحيح عَنْ طَارِق بن شهاب، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «‌كَلِمَةُ ‌حَقٍّ ‌عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ»، فإذا كان التكلم بالحق هو أفضل الجهاد فإن السكوت عن قول الحق مع القدرة عليه فرار من الجهاد.

ومن النماذج الطيبة في علماء هذه الأمة ما أورده السبكي قال: سَمِعت شَيخنَا الْبَاجِيّ يَقُول: طلع شَيخنَا عز الدّين مرّة إِلَى السُّلْطَان فِي يَوْم عيد إِلَى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بَين يَدَيْهِ ومجلس المملكة وَمَا السُّلْطَان فِيهِ يَوْم الْعِيد من الأبهة وَقد خرج على قومه فِي زينته على عَادَة سلاطين الديار المصرية وَأخذت الْأُمَرَاء تقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان.

فَالْتَفت الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان وناداه: يَا أَيُّوب، ‌مَا ‌حجتك ‌عِنْد ‌الله إِذا قَالَ لَك: ألم أبوئ لَك ملك مصر ثمَّ تبيح الْخُمُور؟!

فَقَالَ: هَل جرى هَذَا؟ فَقَالَ: نعم الحانة الْفُلَانِيَّة يُبَاع فِيهَا الْخُمُور وَغَيرهَا من الْمُنْكَرَات وَأَنت تتقلب فِي نعْمَة هَذِه المملكة.

يُنَادِيه كَذَلِك بِأَعْلَى صَوته والعساكر واقفون، فَقَالَ: يَا سَيِّدي، هَذَا أَنا مَا عملته، هَذَا من زمَان أبي، فَقَالَ: أَنْت من الَّذين يَقُولُونَ: (إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة).

فرسم السُّلْطَان بِإِبْطَال تِلْكَ الحانة، سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام يَقُول سَمِعت الْبَاجِيّ يَقُول سَأَلت الشَّيْخ لما جَاءَ من عِنْد السُّلْطَان وَقد شاع هَذَا الْخَبَر يَا سَيِّدي كَيفَ الْحَال؟ فَقَالَ يَا بني: رَأَيْته فِي تِلْكَ العظمة فَأَرَدْت أَن أهينه لِئَلَّا تكبر نَفسه فتؤذيه، فَقلت: يَا سَيِّدي، أما خفته؟! فَقَالَ: وَالله يَا بني استحضرت هَيْبَة الله تَعَالَى فَصَارَ السُّلْطَان قدامي كالقط(1).

غزة بين الجوع والخذلان.. فهل من ناصر؟ |  Mugtama
غزة بين الجوع والخذلان.. فهل من ناصر؟ | Mugtama
غزة، هذا الشريط الصغير من الأرض، يشهد منذ سنوات حص...
mugtama.com
×

5- الصمت خوفًا من الخلق لا خشية من الخالق:

روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ ‌هَيْبَةُ ‌النَّاسِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ أَوْ سَمِعَهُ».

أخطار الصمت المذموم

1- الوقوع في الإثم الشرعي، فقد أوضح الله ذلك بقوله: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ‌آثِمٌ ‌قَلْبُهُ).

2- استحقاق اللعنة، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة).

3- تجرؤ الظالمين؛ لأنهم لم يواجهوا صوتًا يردعهم.

4- إحباط المظلومين؛ لأنهم شعروا بأنهم وحدهم.

5- فقدان هيبة أهل الحق، حين يسكتون خوفًا أو مجاملة.

6- تشويه صورة الإسلام، حين يُفهم منه التخاذل أو الخنوع.

 




______________________

(1) طبقات الشافعية الكبرى: السبكي، (8/ 211).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة