من أسباب التخلف الحضاري للمسلمين إهمال العلوم التجريبية

مما يسترعي النظر تأخر المسلمين في العلوم التجريبية أو العملية في القرون الأخيرة، بالنظر إلى عنايتهم بعلوم الدين التقليدية من تفسير وحديث وفقه، وعلم كلام.

ففي القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/ الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، لا نكاد نجد من العلماء المتقدمين في هذه العلوم جملة معتبرة أو أفرادًا يُشار إليهم في تخصصاتهم، صحيح أن التأخر العلمي كان عامًّا في العلوم كلها، وأن العلوم الدينية المشار إليها كانت تعاني الجمود وتفتقر إلى الاجتهاد والتجديد، لكن إهمال العلوم التجريبية كان أشد، وكانت نتائجه شديدة الضرر على الأمة حتى يومنا هذا.

ومن ذلك أنه في عام 1161هـ/ 1748م أرسلت الدولة العثمانية والياً على مصر، هو أحمد باشا المعروف بكُور وزير، وكان من أرباب الفضائل، فباحث علماءها فوجد علومهم وافرة في اللغة والشريعة، ثم باحثهم في الرياضيات، فأحْجموا، وقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجَّب وسكت، ثم ذكر ذلك للشَّيخ عبداللَّه الشَّبراوي، شيخ الجامع الأزهر، فأقر بانصراف أهل الأزهر عن تلك العلوم، وانتهى الأمر بترشيح والد المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي ليطارحه علوم الرياضيات، وكان بها عليمًا، فَسُرَّ به الوالي، ومدَحه قائلاً: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني»، وكان المرحوم الشيخ عبدالله الشبراوي كلما تلاقى مع والد الجبرتي يقول له: «سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا، فإنه لولا وجودك كنا جميعًا عنده حميرًا» (تاريخ الجبرتي، 1/ 276-278).

وفي عام 1305هـ/ 1877م، أُرسل استفتاء إلى شيخ الأزهر محمد الإنبابي عن مدى جواز تعلم المسلمين العلوم الرياضية والطبيعيات والهيئة والكيمياء، وقد أجاب الشيخ بأنه يجوز تعلم العلوم الرياضية وعلم الطب والطبيعيات، أما الهيئة (الفلك) فلا يجوز، وكأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها، وذوي التفوق فيها.

هذا القصور لم يبدأ في التاريخ المذكور، بل حتى العصور الزاهية تستطيع أن تجد في الفقه والحديث أضعاف من برعوا في الفلك والرياضيات والطب والهندسة، ومن يقرأ تراجم علماء المائة الثامنة أو التاسعة مثلاً عند ابن حجر، والسخاوي، ستتأكد عنده النتيجة السابقة.

ولهذا جذوره عند كبار علمائنا الذين نظروا إلى العلوم الطبيعية على أنها أقل رتبة ومكانة من علوم الشريعة، فأبو حامد الغزالي مثلاً –وهو من هو علمًا وأثرًا- يصف الرياضيات بأنها ‌أمور ‌برهانية، لا سبيل إلى جحودها واللجاج فيها، ويرى أنها من علوم الكفاية التي يجب على الأمة في مجموعها القيام بها، وتأثم إن ضيعتها. (فاتحة العلوم، ص 38)، لكن كثيرًا من المشتغلين بها متشككون، وملحدون، مع وفرة علومهم وذكائهم، فقاد ذلك إلى الافتتان بهم من جهلة العوام (المنقذ من الضلال، ص 149-150، ص 148-149).

ويذكر الغزالي أهمية علم الطب لحفظ الأبدان التي لا يمكن عبادة الله إلا بها، ولكن الطب أدنى مرتبة عنده من الفقه، وقال: «حاشا لله أن أسوي بين العلمين في الشرف والرتبة» (فاتحة العلوم، ص 45)، وشتان ما بين طب القلوب والأرواح؛ المتوصل به إلى حياة الأبد؛ والطب الذي يعالج الأجساد المعرضة بالضرورة للفساد بالموت. (إحياء علوم الدين، 1/ 4).

وقد شغلت قضية المفاضلة بين العلوم، وأيها أشرف مكانة وأعلى درجة كثيرًا من علمائنا في العصور الماضية، ولو أنهم اقتصروا على بيان فروض العلم العينية التي لا يسع المسلم جهلها في دينه، وسوَّوا بين بقية العلوم الكفائية التي تجب على الأمة في مجموعها -مع التنبيه على أولوية ما يعظم احتياج الأمة إليه- لكان أسلم وأولى، لكن أصحاب كل علم فضلوه على بقية العلوم، وانشغلوا ببيان مزاياه وسجاياه، فزلَّت بهم الأقدام، وجنت الأمة الخبال.

ومن ذلك أن العناية الفائقة بعلم الفقه مثلاً استحوذت على كثير من ذوي العقول النابهة، ولما كانت أمهات مسائله قد قررها الأولون؛ فإن كثيرين ممن تلاهم انشغلوا بتشقيق مسائله، والإمعان في افتراض فرضيات لم تقع، واجترّوا ما قاله السابقون، وطفقوا يكتبون الحواشي والشروح على كتبهم التي ربما تزيدها غموضًا، وتحتاج بدورها إلى شروح، واكتفوا بشرف العلم عن الاجتهاد فيما يجدُّ من قضاياه، بل تنادوا بإغلاق باب الاجتهاد فيه، فكانوا كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى:

ما أَرانا نَقولُ إِلّا رَجيعًا       وَمُعاداً مِن قَولِنا مَكرورا

وأمعنوا في افتراض فرضيات لم تقع، في حين تركوا الاجتهاد فيما وقع فعلاً، فخالفوا منهج الأثبات من علماء الصحابة الذين كرهوا الانشغال بما لم يقع عما وقع بالفعل، من ذلك قول ابن عمر: «لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن»، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا؟ فإن قيل: لا، قال: «دعوه حتى يكون» (الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه، 2/ 12-13).

فترتب على ذلك أن تضخمت أبواب في الفقه، مثل فقه الطهارة والصلاة، وضمرت أخرى مما تشتد الحاجة إليها، مثل مسائل الإمامة والجهاد وقضايا السياسة والعلاقات الدولية.

بينما أهملت علوم الحياة الدافقة من طب وهندسة وفلك وطبيعيات وغيرها، في حين تقدمت أمم الغرب بعنايتهم بتلك العلوم، وتسخير إمكاناتهم السياسية ومواردهم الاقتصادية في دعمها، ونجحوا في تكسير قيود الكنيسة التي اجتهدت في صد سيلهم الزاخر، فتقدموا وتأخرت شعوبنا، ولم تفدهم الشروح والحواشي، وتشريف بعض العلوم، والغض من علوم أخرى.

ودفعت الأمة أثمانًا فادحة لتأخرها في تلك العلوم، حيث وقفت عاجزة عن صد الطامعين فيها الذين امتلكوا أزمَّة العلم وقوته المادية الكاسحة.

وقد اعتدل الميزان -أو قارب الاعتدال- في القرن الأخير، إذ اتجه كثيرون من طلاب العلم إلى العلوم التجريبية، وربما كان الدافع الاقتصادي مما قاد إلى تلك الوجهة، إذ علت مكانة المشتغلين بالرياضيات والطب والهندسة، وأجورهم، في مقابل المتخصصين بالآداب واللسانيات والعلوم الدينية، إلا أنّ تدارك ما فات؛ وإقامة نهضة علمية حقيقية في العالم الإسلامي؛ لم تعد مسألة فردية، نحفز من أجلها آحاد العلماء أو طالبي العلم، بل غدت مرهونة بالإرادة السياسية التي تعاني أغلالاً ثقيلة، والموارد المالية التي يجب أن تخصص للبحث العلمي الرصين الباهظ الكلفة، وهو ما لا يتحقق في عالمنا الإسلامي، إذ تتوجه موارد الأمة لمسارات أخرى تحتل منازل أعلى عند صناع القرار، يأتي على رأسها حفظ الأمن السياسي والدفاع القومي.

كما أصبح التقدم العلمي مشروطًا بما تسمح به الدول التي سبقت إليه في الغرب، وبما تمليه رؤيتها المتوجسة من أي تقدم حر يظفر به العالم الإسلامي.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة