«مولد البدوي».. مهرجان اغتيال الوعي وتزييف التدين!

إن المشهد الصارخ الذي يتجدد كل عام في مصر تحت مسمى «الليلة الكبيرة» لهو ثلمة في جبين الأمة، حيث يمثّلُ نُدبة غائرةً في جبينِ وعيها الجمعي، ذلكم السرادقُ العظيمُ الذي يُنصَبُ زوراً باسمِ الدينِ في مولدِ البدوي (صالحاً كان أو فاسداً، حقيقةً كان أو وهماً)، لم يعد هذا الطقسُ مجردَ احتفاءٍ عابرٍ، بل غدا بؤرةً فكريةً لتوظيفِ العاطفةِ الدينيةِ الجياشةِ في سياقٍ ينحرفُ بباطنِ العقيدةِ إلى مهاوي الزيغِ والضلال.

هندسة التيه وتخدير الأمة

وهذا المشهدُ العبثي يتم تسويقه للأمة بغية أن تزدادَ تَيهاً وانحرافاً وانجرافاً، وكأنما هناك مهندسونَ أكفاءُ يمتلكون براعةً خبيثةً، يبذلونَ جهوداً خارقةً لتصميمِ تلكَ المشاهدِ بما تحملُهُ من رسائلَ تفسدُ العقيدةَ وتغرسُ فسائلَ التخلفِ، وتُسَيِّلُ الجهدَ الدعويَّ، إنها تُمثلُ نوعاً من التخديرِ الدينيِّ الذي يُصيبُ شرائحَ واسعةً من الأمةِ، فيفصلُها عن إدراكِ مآزقِ الواقعِ، ويجعلُها سعيدةً منتشية بما تفعلهُ من ترهاتِ اللعبِ واللهوِ.

صمت المؤسسات وإجازة الانحراف

وتشتدّ وطأةُ المصاب حين يُرَى في طليعة هذا المشهدِ المتراجعِ بعضُ المنتسبين للعلم مظهراً وللأزهر وظيفةً، ويبلغ الحرجُ منتهاه حين تلوذُ المؤسسةُ الأم، الأزهر الشريف، بالصمتِ المريب! وهذا السكوت ليس مجرد إعراض، بل هو أشبه بختمِ الإجازةِ الرسميِّ على تآكلِ القواعد الفكرية، وتراجع المؤسسة الدينية الأكبر في العالم عن القيام بمهمتها!

صورة عبثية تصدَّر للإسلام

والأدهى والأخطرُ والأفجرُ أن يُساق هذا النموذجُ البائسُ على أنهُ من صميمِ الدينِ أو من صُورِ التدينِ المقبولِ، فيقعُ الناسُ في كذبٍ على اللهِ ورسولِه، وتُنصبُ الفتنةُ للمؤمنينَ، ويُصدُّ عن سبيلِ اللهِ تعالى، ويُقدَّمُ الإسلامُ للعالمِ بتلكَ الصورةِ العبثيةِ البلهاءِ، وكأنما ينقصُ الأمةَ البلهاءُ، إِذْ لا يكفيها ما تُقدمُهُ الأنظمةُ في أكثرِ بلادِها من تصرُّفاتٍ بلهاءَ ومواقفَ مُخزِيةٍ! فكأنَّ لسانَ الحالِ يقول: كانَ اللهُ في عونِ أمةٍ تحكمُها الحماقةُ ويسوسُها الجهلاءُ، وتقامُ فيها أسواقٌ سنويةٌ للتفاهةِ، ويُحتفَلُ فيها بالعبثيةِ كصناعةٍ دينيةٍ رابحةٍ!

انزلاق نحو الوثنية الحديثة

إنَّ الضجيجَ الصاخبَ والمظاهرَ البهلوانيةَ والازدحامَ غير المنضبطِ الذي يسودُ «الليلةَ الكبيرة» لا يشهدُ على دينٍ جاءَ لينقذَ، بل يُثبتُ أن الأمةَ في خطرِ الانزلاقِ إلى مَكامِنِ الوثنيةِ الحديثةِ، حيثُ تُصبحُ الأضرحةُ قِبلةً، وتُضحى البركةُ سلعةً تُشترى بالموالدِ والصيحاتِ، بينما تنزوي قيمةُ الذكرِ الحقيقيِّ والإخلاصِ للهِ وحدَه، ويُغتالُ جهدُ مجاهدةِ النفسِ، ويُعطَّلُ واجبُ إعمارِ الأرضِ بدينِ اللهِ تعالى.

الإسلام.. ثورة على العبثية لا تشريع لها

إنَّ الإسلامَ لم يكنْ يوماً في صفِّ العبثيةِ أو مُشرِّعاً لها، بل إنَّ كلَّ تشريعاتِه إنما هي في الأساسِ ثورةٌ مُنظَّمةٌ على العبثيةِ، لتعيدَ الإنسانَ إلى منصاتِ الاستخلافِ ومهامِّ إعمارِ الأرضِ بنورِ اللهِ، واكتشافِ ما سخَّرَهُ اللهُ للبشرية في الكونِ عن طريقِ الجهادِ في محاريبِ العلمِ والبحثِ العلميِّ والإبداعِ، ومحاريبِ التربيةِ والتزكيةِ، ومحاريبِ التفكرِ وصناعةِ العقولِ المُدرِكةِ الفاعلةِ المؤثرةِ الرائدةِ، لتليقَ بحملِ أمانةِ الرسالةِ وتتأهبَ لشرفِ وراثةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في المهمتينِ العظيمتينِ:

الأولى: أن يبلِّغَ الرسالةَ للعالمينَ، عملاً بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ: 28)؛ وتلكَ واللهِ مهمةٌ تنوءُ منها الجبالُ الرواسي، وليسَ يتراقصُ لها الرجالُ والنساءُ في حلقاتِ اللهوِ الرعناء!

والتكليفُ الثاني: يتمثلُ في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وهذهِ مهمةٌ كذلكَ غايةٌ في الصعوبةِ، تقتضي أن يبذلَ الوارثُ النبويُّ كلَّ ذرةٍ في إمكاناتِه ووقتِه وحياتِه ليرحمَ البشريةَ من وعثاءِ الكفرِ وكآبةِ الشركِ وسوءِ المآلِ، فأيُّ وراثةٍ يحملُها المشعوذونَ المُتفيهقونَ؟ وأيُّ رحمةٍ يحملُها اللاهونَ العابثونَ الذين يقدمونَ الإسلامَ للناسِ بصورةِ المتخلفِ عقلياً، المتسولِ حضارياً، المنهزمِ حضارياً والغائبِ فاعليةً وتأثيراً!

وصمة عار في جبين الأمة

للأسف، هذا مشهد يمثل وصمةَ عارٍ جديدة في جبينِ الأمةِ الذي أصبحَ موسوماً بأنواعٍ من العارِ لم يتخيلها أحدٌ من أهلِ الإسلامِ، لقد سمعَ الصحابةُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يحذِّرُهم من آثارِ العبثيةِ قائلاً: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، فقالوا متعجبينَ، لأنهم يعلمون يقيناً أن هذا لا يمكنُ أن يحدثَ في وجودِ أهلِ الإيمانِ: أَوَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! هذا ما ينبغي أن يُتصور لديهم لأنهُ لا يمكنُ أن يتخيلوا أن أهلَ الإيمانِ يوجدون وتكونَ الأمةُ كَلأً مُباحاً لكلابِ الشوارعِ الضالةِ وذئابِ الليلِ، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يرسمُ لهم هذا المشهدَ المؤلمَ الذي نحياهُ اليوم: «لا، وَلَكِنَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ..»؛ أي كثرةٌ مجردةٌ من الفاعليةِ والجودةِ التي تُغيِّرُ الواقعَ.

اغتيال الإيمان المنتج

إنها جريمةٌ ضدَّ أسمى ما جاءَ بهِ الإسلامُ وأغلى ما غرسَهُ في النفوسِ؛ إنه اغتيالٌ للإيمانِ المُحرِّكِ للأمةِ في مجالاتِ الإنتاجِ والإبداعِ والإعمارِ والفاعليةِ، حيثُ يُحوَّلُ الإسلامُ من منهجٍ يقينيٍّ يقومُ على الدليلِ والاتباع، إلى طقوسٍ غامضةٍ تقومُ على الخوارقِ والتبركِ غيرِ المشروعِ، يرى الناظرُ أن غايةَ التعلقِ والرجاءِ قد انزاحتْ من عظمةِ الخالقِ وسلطانِه إلى عظمةِ المخلوقِ وقدرتِه الموهومةِ!

تدين مغشوش برعاية الطغيان

وبالطبعِ، فإن هذا النوعَ من التدينِ المغشوشِ وهذهِ الصورةَ القميئةَ التي تخدمُ أعداءَ الأمةِ تنالُ كاملَ الرعايةِ والعنايةِ من الأنظمةِ الرسمية ابتداءً؛ فمن مصلحتهم أن تعيشَ الأمةُ في تيهٍ، فلا حريةَ يتطلعون إليها ولا كرامة يبحثون عنها، ولا راية حق يصارعون لينالوا شرف حملها، فقد رَضُوا بالعبوديةِ للمقبورينَ الأمواتِ فما بالكِ بالمقبورينَ الأحياءِ؟! ثم تنالُ الدعمَ والرعايةَ ثانياً من قوى البغيِ العالميِّ، وليسَ أدلُّ على ذلكَ من حرصِ السفيرِ الأمريكيِّ منذُ زمنٍ طويلٍ على حضورِ هذهِ الفعاليةِ التي تضربُ عقيدةَ المسلمينَ أشدَّ من ضرباتِ قنابلِهم وطائراتِهم التي تحرقُ أهلَ غزةَ وتهجرُهم وتجوِّعُهم!

إنَّ استغلالَ الدينِ وتحويلَهُ إلى مادةٍ فولكلوريةٍ صاخبةٍ يُعَدُّ جزءاً من إستراتيجياتِ القوةِ الناعمةِ التي تهدفُ إلى تطبيعِ الانحرافِ السلوكيِّ والعقديِّ، وتصويرِ الإسلامِ للعالمِ على أنّهُ دينُ مظاهرَ وطقوسٍ لا دينُ فكرٍ وعقلٍ ومنهجٍ.

أخيراً.. معركة وعي وحضارة

نقول: إنَّ معركةَ «مولدِ البدويِّ» في حقيقتِها معركةٌ حضاريةٌ ومنهجيةٌ بامتيازٍ، بينَ نورِ التوحيدِ المُنزَلِ وظلامِ الخرافةِ الموروثةِ والمُستَغَلَّةِ، بين طلائع الإيمان المحرك للنهوض والرفعة والتقدم، ودعاة الانسحاب والانسحاق والاغتراب.

لذا، فإنه يجبُ على كلِّ عالمٍ يحملُ همَّ هذهِ الأمةِ أنْ يخرجَ عن ثوبِ الصمتِ والمداهنةِ، وأن يُصوِّبَ الخطابَ بحكمةٍ وبلاغةٍ لا تُخالطانها التنازلاتُ، يجبُ أن تُعادَ صياغةُ التدينِ في وجدانِ الأمةِ ليصبحَ التزاماً أخلاقياً وعملاً صالحاً وجهاداً في سبيلِ الإعمارِ، لا مجردَ صخبٍ على الأضرحةِ.

فالواجبُ العاجلُ هو إعادةُ البوصلةِ إلى المنهجِ النبويِّ القويمِ، وكشفُ زيفِ الباطلِ بوضوحِ الحجةِ، لنُحرِّرَ الوعيَ ونُنقِذَ الأجيالَ من هذا الفسادِ العقديِّ البليغِ في بلاغةِ انحرافِه، حتى يظلَّ الإسلامُ مصدرَ هدايةٍ ورفعةٍ، لا أداةً لاستغلالِ الشعوبِ ومسخها وتجريفها وطمس هويتها وضياع بوصلتها.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة