شبهات حول فلسطين (12)

هل اخترع الأمويون قدسية القدس؟

ربما لا يكاد يخلو كتابٌ أو بحث استشراقي وخاصةً للكتَّاب «الإسرائيليين» في زماننا إلا وجدتَ لهم كلاماً كثيراً وشداً وجذباً وأخذاً ورداً في ادعاء دور الأمويين –وتحديداً الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان– في تقعيد وتأصيل قدسية القدس في الإسلام، بل ويصل الأمر لبعضهم إلى ادعاء أن القدس لم تكن مقدسةً قبل ذلك الزمن، وأن عبدالملك إنما «اخترع» للقدس في الإسلام مكانةً دينيةً خاصةً لا لشيءٍ إلا لخدمة أغراضه السياسية في صراعه مع عبدالله بن الزبير رضي الله عنه الذي استمر 8 سنوات، قبل أن يحسمه الحجاج بن يوسف الثقفي بدخول مكة وقتل ابن الزبير وإنهاء خلافته.

ومن الأصوات التي ما زالت إلى اليوم تتغنى بهذه الشبهةِ على سبيل المثال الباحث «الإسرائيلي» عوفير ليفني-كافري الذي يخصص لهذه القضية شطراً كبيراً من دراساته لدرجة التعامل معها على أنها إحدى مُسلَّمات التاريخ وحقائقه التي لا جدال فيها، فتراه يتكلم في هذا الموضوع باعتباره الأمر المعروف بين المؤرخين جميعاً.

ولكي يدلل على ذلك، فإنه يستند في كلامه إلى مصدرٍ أساسي في التاريخ الإسلامي كتب باللغة العربية في القرن الثالث الهجري، وهو تاريخ اليعقوبي، وهذا الأمر يوحي بأنه يضفي على كلام ليفني-كافري قوةً ورسوخاً علمياً وكأنه يقول لنا: «مصادركم أنتم هي التي تقول كذلك».

وملخص الادعاء الذي يتغنّى به ليفني-كافري ومَن على شاكلته هو ما يرويه اليعقوبي في تاريخه أن عبدالملك بن مروان بنى قبة الصخرة المشرفة ليشغل الناس بها عن الحج إلى مكة المكرمة التي كان يسيطر عليها ابن الزبير، بل وأمر الناس بالحج إليها بدلاً من الكعبة، ويدّعي اليعقوبي في كلامه ذاك أن عبدالملك عندما نوى أن يبني قبة الصخرة استعان لأجل إقناع الناس بأمرها ببعض العلماء الكبار في زمانه وعلى رأسهم الإمام ابن شهاب الزُّهري، فقال لمن حوله: هذا الزهري يحدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، وبذلك يكون بناء قبة الصخرة كله مجرد حلقةٍ في صراعٍ سياسي أدى في النهاية إلى أن يصبح للقدس مكانة غير مستحقةٍ في الإسلام، حسب ادعاءات ليفني-كافري ومن معه.

والواقع أن هذه الشبهة وإن تغلفت بغلاف العلمية، فإنها تعتبر من أكثر الشبهات سقوطاً وتهافتاً؛ ذلك أن رواية اليعقوبي التي انفرد بها ونقلها عنه مَن نقلها دون تمحيص –حتى كان منهم ابن كثير الذي نقلها عنه نقلاً كما هي– فيها خطأ جوهري يبين أنها مكذوبة من أولها لآخرها، فابن شهاب الزهري اختُلِفَ في تاريخ مولده بين من قال: إنه ولد عام 50هـ، ومن قال: 51 و53 حتى 58هـ، وعبدالملك بن مروان كان قد بدأ في تشييد قبة الصخرة المشرفة عام 65هـ، وهذا يعني أن الزهري كان في ذلك الوقت إما ابن 7 سنين، أو 12، أو 15 عاماً على الأكثر؛ أي أنه لم يكن أكثر من صبي صغير ما زال يتعلم، ولم يكن يعرفه أحد، فكيف يستعين الخليفة بصبيٍّ صغير كما يدعي اليعقوبي؟

والواقع أن هذا الخطأ الذي وقع فيه اليعقوبي كان مفتاح تهافت ادعائه كله الذي استند إليه هؤلاء الكتّاب في زماننا.

كما أن الطبري نفسه ينقل أن عبدالملك بن مروان لم يمنع الحج في زمن صراعه مع ابن الزبير، بل كانت خيام أهل الشام أتباع عبدالملك في مِنى تقابل خيام أهل مكة أتباع عبدالله بن الزبير، كما ينقل الطبري، وبالتالي فإن قصة منع الحج وتبديل الكعبة واختراع الحديث وقدسية الأقصى كلها تصبح متهافتة ساقطة.

أما لو أردنا أن نعرف لماذا كذب اليعقوبي هذه الكذبة على عبدالملك، فإن نظرة إلى تراث اليعقوبي وسيرته تبين لنا السبب، وهو أنه كان متشيعاً شديد التشيع؛ ما حدا به أن يصبغ تاريخه بهذه الصبغة ويخترع أحداثاً تفيد تشيعه كادعائه مثلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى تبوك ليطلب بدم جعفر بن أبي طالب فقط، وهذا ما يجعل التعامل معه ينبغي أن يكون بمنتهى الحذر للتفرقة بين ما كتبه بهدف التأريخ، وما كتبه بهدف نشر فكره الخاص.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة