هنيئا للمبادرين

الإخوة الكرام فريق العمل بمجلة «المجتمع»، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، جزاكم الله خيراً على جهودكم الطيبة.
إن سمحت لي أستاذي الفاضل أن أعرض مشكلتي مع حبيبتي التي قد تبدو بسيطة، ولكنها تؤلمني كثيراً، وتشعرني بعدم الاستقرار النفسي، بل وتجعلني متوجساً من الغد ومفاجآته، ورغم آلامها، فإنني سأحاول الابتعاد عن عواطفي، وأسرد الأحداث عسى أن تكون عبرة.
بداية، أؤكد أن زوجتي طيبة صوامة قوامة عفيفة اللسان، تزوجنا منذ أكثر من أربعة عقود، ورزقنا الله أربعة أولاد، والحمد لله أنهوا دراستهم الجامعية وتزوجوا، ونتمتع بفضل الله بمستوى مادي مرتفع.
من جانبي أبذل قصارى جهدي في علاقتنا الزوجية، وأتابع بشغف سلسلة المودة والرحمة معكم، وأحاول أن أبتكر، كما تشير في كثير من مقالاتك، فيومياً ولله الفضل نجتمع حول كتاب الله وأرقيها ونفسي، دائماً أشيد بما تفعله، دائماً ما أتواصل معها عاطفياً سواء كنت بالمنزل أو بالخارج، كما أننا نلتقي حوالي مرتين أو أكثر أسبوعياً في لقاء حميمي تبدو بعده وكأنها فتاة في مقتبل العمر، لعلك تتساءل أستاذي الفاضل أين المشكلة؟
المشكلة:
إذا ما حصل خلاف مهما كان بسيطاً، ما لم أبادر أنا من جانبي بالتواصل، لا يمكن لها من جانبها أن تبادر، وتتعقد العلاقة ليس بسبب تفاهة الخلاف، ولكن لأنني عادة ما أنتظر منها أن تُحسن إليَّ كما أنا أبالغ بالإحسان إليها في كل علاقاتنا، ويطول انتظاري ولا تبادر؛ حيث إن كل ما أبذله معها تأثيره آنيّ وقتي فقط! ولا أثر له في بناء وتقوية علاقاتنا، وكأنني في بداية علاقتنا وليس لديّ أي رصيد عندها من الاهتمام بها ورعايتها.
حقيقة، أتوجس من علاقتي بها، وأصبحت لا أطمئن إلى ردود فعلها، أن قيمتي لديها فقط فيما أقدمه، نعم رد فعلها طيب ولا تصدني، ولكن إن مكثتُ دهراً، فلا أمل في مبادرتها؛ لأنها ترى أنها على حق وعليَّ أن أبادر.
من جانبي، كثيراً ما أتجاهل الخلاف وأبادر، ولكن لا أنكر أحياناً أتمسك بوجهة نظري، وأنتظر منها اعتذاراً أو أي شكل من أشكال التواد، ويطول انتظاري وأضطر أنا للتواصل معها حفاظاً عليها؛ لأن حالتها النفسية والصحية تسوء.
قوة العلاقة الزوجية تعتمد على بناء رصيد تراكمي من العطاء وأكثره تأثيراً مبادرة الزوج بحل الخلافات مع زوجه
هذا يجعلني أتساءل: هل حقاً هي تقدّر حضني لها ورقيتي لها؟ هل حقاً تستشعر قيمة نعمة الله علينا بدوام علاقتنا الحميمية في أرقى مستويات الإشباع؟ وهل.. وهل..؟ نِعَم من الله علينا بزواجنا لا تحصى ولا تعد، ورحلة عمر جميلة بكل ما فيها، ولكن لا شيء يجعلها تبادر عند حدوث أدنى خلاف!
حاولت أن أسألها: لماذا لم تبادري؟ حتى أعالج الأسباب التي تمنعها من ذلك، لم تجب.
أيضاً، نظرتها لأي خلاف، تعظيمها لأمور قد تبدو من وجهة نظري تافهة ولا تستحق أي تعليق منها، أجدها تنسى كل ما في علاقتنا من قيم إيجابية وترى مأساة حياتها في هذا الخلاف الضيق، أنا طبعاً لستُ ملاكاً، فمن المؤكد لي هفوات أو تجاوزات كما ترى هي، ولكن بتركيزها وحساسيتها تتعقد الأمور.
كما أنها تتمتع بذاكرة سلبية تتفوق بها على أقوى الكومبيوترات في العالم! مررنا ببعض المنعطفات التي تعتبرها من جانبها خطايا لا تُغتفر، رغم أنني كنت في قمة الكرم الأخلاقي والمادي معها، ولكنها أسيرة ذكرياتها السلبية التي بنتها برؤيتها السوداوية وتعيش فيها وتؤثر سلباً على صحتها وبالتالي على سلبيتها معي.
كنت معتقداً أنني أقدر أن أكون زوجاً يستطيع أن يُسعد زوجته، وهي تشيد بي عند عطائي لها؛ بأنني زوج مبدع.. ولكن إذا ما حدث أي خلاف لا تراني إلا من خلال هذا الخلاف فقط، وباقي ما أنعم الله به من نِعَم في علاقاتي بها لا قيمة لها ولا أثر.
حاولت أن أقنعها، ولكن ترى أنني متحيز للرأي وغير موضوعي ومتحامل عليها، فهل من نصيحة لي ولها عسى تستمع إليك؟
التحليل:
هذه من الرسائل التي كثيراً ما ترد إلى بريد المجلة التي تدور حول بذل أحد الزوجين من المبادرات الطيبة، ولكن لا يرى أثراً منها على سلوك زوجه إذا ما حدث أدنى خلاف، كما أنه عندما تكون الحياة طبيعية فزوجه يمدحه، بل ويقر أن زوجه رائع، ولكن إذا ما حدث ما يعكر صفو العلاقات الزوجية ينطوي ولا يبادر.
من واقع ما يرد إلينا من استشارات أستطيع أن أؤكد أن عادة الزوجات هن اللائي يبادرن ويبذلن جهوداً لاستعادة العلاقات الزوجية إلى مسارها الطبيعي، وقد يعانين من تعنّت أزواجهن، ولكن هناك أيضاً في المقابل بعض الحالات القليلة التي قد يبذل فيها الأزواج من مبادرات، وتتميز زوجاتهم بالسلبية.
أولاً: حديثي لمن يبادر سواء أكان زوجاً أو زوجة:
- المبادرة:
هذه نعمة عظيمة منّ الله عليك بها، أن وفقك أن تكون مبادراً، وأحسب أنك إذا أخلصت النية لله، واحتسبت جهدك عند الله؛ فبفضل الله لك الثواب من الكريم عز وجل، وأذكرك ونفسي ببعض ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فَيَصُدُّ هذا، ويَصُدُّ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ» (رواه أبو أيوب الأنصاري، صحيح أبي داود، 4911).
وقال: «تُفْتَحُ أبْوابُ الجَنَّةِ يَومَ الإثْنَيْنِ، ويَومَ الخَمِيسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رَجُلًا كانَتْ بيْنَهُ وبيْنَ أخِيهِ شَحْناءُ، فيُقالُ: أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا، أنْظِرُوا هَذَيْنِ حتَّى يَصْطَلِحا» (رواه أبو هريرة، صحيح مسلم)، وقال: «ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقةِ؟»، قالوا: بلى، قال: «إصلاحُ ذاتِ البينِ، وفسادُ ذاتِ البينِ الحالِقةُ» (رواه أبو الدرداء، صحيح أبي داود).
هذا في إصلاح ذات البين بصفة عامة، فما بالنا وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم الأهل بقوله: «خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي» (المحدث: الهيتمي المكي، الإفصاح عن أحاديث النكاح، صحيح)؟! وقال: «لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً إن سخِطَ منْها خُلقًا رضِيَ منْها آخرَ» (المحدث: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (2/ 212)، صحيح).
- الصبر الجميل:
حثنا المولى عز وجل في كثير من الآيات على الصبر على أي ابتلاء، فجزاؤه عظيم: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، فما بالنا بأجر من يصبر على زوجه؟! وذلك من عظم الخيرية، فصبر الزوج على زوجه من العبادات العظيمة إن أخلص النية لله واحتسب.
- وفي ذلك فليتنافس المتنافسون:
نحن نتحدث عن بيوت المسلمين، من يبتغون مرضاة الله، يوقنون أن الله رقب عتيد؛ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة)، زوجان يتعبدان لله في زواجهما؛ لذا فتنافسهما في المبادرة بتخطي الخلافات أو حلها، أساسه العفو والصبر الجميل على ما تبقى من خلافات لم تحل، فهنيئاً للمبادرين.
ثانياً: لمن ينتظر مبادرة زوجه:
لماذا لا يبادر الزوج زوجه بالإحسان؟
سأعرض بعض الأسباب التي قد تكون سبباً في الصد عن المبادرة ومقترحات علاجها، وهي:
- الجهل بالأجر العظيم للمبادِر: العلم والفهم وتجديد النية.
- العيش مع تصورات شيطانية لإحداث مضت، واجترار الآلام مما يجعل الزوج حساساً لبعض الكلمات أو التصرفات واستعذاب دور الضحية، هذه الحالة النفسية مدمرة لصاحبها وزوجه؛ لأنه يكون ممتلئاً بالذكريات السلبية، وينتظر أي استثارة ليثور؛ وبالتالي لا يمكن له أن يبادر؛ لذا عليه الرجوع إلى الله وتذكر نِعَم المولى عليه ويشكر الله على نعمائه.
- الصورة الذهنية السلبية عن الزوج: أنا لو بادرت سيعتقد أنني ضعيف، سيعتقد أنه صاحب الحق، يمكن أن يصدني ويحرجني.
الجهل بالآثار السلبية لعدم المبادرة
إن زوجك إنسان وقد تنفد قدراته أو يضعف أمام وخز الشيطان وأثرة النفس، أو يميل فتخور قواه النفسية فيسقط تحت وطأة: «ولماذا أنا الذي عليَّ أن يبادر؟»، ومع سيطرة الشيطان عليكما تصلان إلى أوضاع معقدة لأسباب تافهة، كان يمكن أن تتلاشى بنظرة امتنان أو بكلمة طيبة ولمسة حانية أو قُبلة.
إن قوة العلاقة الزوجية تعتمد على بناء رصيد تراكمي من العطاء، ومن أكثر العطاءات تأثيراً في النفس هو مبادرة الزوج بحل الخلافات مع زوجه، هذا يعلي من قدره وقيمته.
عادة ما يفهم الزوج عدم مبادرة زوجه بتجاوز الخلاف معه، بأنه عدم اهتمام به، مما يثير في النفس البغضاء، كما أنه يستدعي ليس فقط الأحداث السلبية من الذاكرة، بل ويضاعف من سلبياتها، كذلك يضعف الحب والوئام مع طول فترة الهجر، ناهيك عن الآثار السبية على الصحة النفسية والبدنية.