وصايا الخلفاء للأمراء بتقوى الله
![](https://mugtama.com/storage/uploads/3OCA4vXmFlD1l3G9oE0k0VpzaqjfxWZmehGmtXtd.jpg)
حين نتصفح وصايا الخلفاء للأمراء نجد أن استفتاح وصاياهم بالحث على تقوى الله، والتقوى تعني الوقاية والحفظ والصيانة، وقال طلق بن حبيب العَنَزِي: التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاءَ رحمة الله، وأن تترك معاصي الله على نورٍ من الله مخافةَ عذاب الله.([1]) فالتقوى تحث المسلم أن يجده الله حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه.
أمثلة من وصايا الخلفاء للأمراء بتقوى الله.
1-أوصى الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان قائلا: "يا يزيد، إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له، والخوف منه".([2]) وحين وجهه لفتح الشام قال له: "عليك بتقوى الله، فإنه يرى من باطنك مثل الذي يرى من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه بعمله".([3])
2-أوصى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول وصية له سيدنا أبا عبيدة عامر بن الجرّاح يقول له فيها: "أوصيك بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه، الذى هدانا من الضّلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور".([4])
ومن وصايا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاته، وصيته إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد. قائلا: "أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا".([5])
وجهز معاوية عمرو بن العاص، وبعثه في ستة آلاف رجل، وخرج وودعه، وقال له عند وداعه إياه "أوصيك يا عمرو بتقوى الله والرفق، فإنه يمن، وبالمهل والتؤدة، فإن العجلة من الشيطان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ في الحجة، وأحسن في العاقبة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأوْلِ حسنا".([6])
3-أوصى الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاته وجمع من الناس قائلا: "اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ غُنْمٌ، وَإِنَّ أَكْيَسَ النَّاسِ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاكْتَسَبَ مِنْ نوَّر اللَّهِ نُورًا لِظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وليخشَ عَبْدٌ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ أَعْمَى، وَقَدْ كان بصيراً، وقد يلقى الْحَكِيمُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَالْأَصَمُّ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بعيد، واعلموا إن من كان الله له لَمْ يَخَفْ شَيْئًا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَمَنْ يَرْجُو بَعْدَهُ؟".([7])
ومن آخر ما أوصى به جماعة من ولاته أن قال: "إنَّ اللَّهَ إنَّما أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تَفْنَى وَإِنَّ الْآخِرَةَ تَبْقَى، لَا تُبْطِرَنَّكُمُ الْفَانِيَةُ، وَلَا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ".([8])
4-أوصى الخليفة الرابع سيدنا علي بن أبي طالب محمد ابن أبى بكر، حين ولّاه مصر: "أمره بتقوى الله والطاعة في السّرّ والعلانية، وخوف الله عزّ وجل في المغيب والمشهد، وباللّين على المسلم، وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذّمّة، وبالإنصاف للمظلوم، وبالشدّة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع والله يجزى المحسنين، ويعذّب المجرمين".([9])
5-أوصى الخليفة الراشد سيدنا عمر بن عبد العزيز بعض الأجناد: "أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله ولزوم طاعته، والتمسّك بأمره، والمعاهدة على ما حمّلك الله عزّ وجلّ من دينه، واستحفظك من كتابه، فإنّ بتقوى الله عزّ وجلّ نجاء أولياء الله عزّ وجلّ من سخطه، وبها تحقّق لهم ولايته، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرب وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهى عصمة في الدنيا من الفتن، والمخرج من كرب يوم القيامة".([10])
كما أوصى عمر بن عبد العزيز رجلا من عماله قائلا: "أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله وتقديم ما استطعت من مالك وما رزقك الله إلى دار قرارك، فإنك والله لكأنك قد ذقت الموت، وعاينت ما بعده بتصرّف الليل والنهار، فإنهما سريعان في طيِّ الأجل ونقص العمر، مستعدّان لمن بقى بمثل الذى قد أصابا به من مضى، فنستغفر الله لسيّئ أعمالنا، ونعوذ بالله من مقته إيانا على ما نعظ به مما نقصّر عنه".([11])
لماذا حرص الخلفاء على وصية الأمراء بتقوى الله؟
الوصية بالتقوى هي خير الوصايا، فهي التي أوصى الله بها عباده فقال: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131]. وإن وصية الخلفاء أمراءهم بتقوى الله جاء للأسباب الآتية:
أولا: أساس الحكم العادل.
فالحاكم الذي يتقي الله ويخافه لا يمكن أن يظلم الناس أو يتجاوز في حقوقهم، بل يحرص على بذل الخير لهم.
ثانيا: التوفيق والتيسير.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3]. وقال عز وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]. والحاكم من أشد الناس احتياجا لتيسير أموره وتفريج كرباته.
ثالثا: استقرار الحكم وسعة الرزق.
فإذا اتقى الحاكم ربه أطاعه الناس وفتح الله لهم أبواب الخير والبركة. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].
رابعا: الحماية من الشر.
فالحكم لابد له من وقاية وحماية، وأساس الحماية من الشر هو تقوى الله، حيث قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]. وقال عز وجل: ﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [النمل: 53]. وقال أيضا: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 120].
خامسا: الاندفاع نحو الخير.
فالتقوى تدفع إلى كل خير، قال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنفال: 29]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28].
___________________
([1]) مصنف ابن أبي شيبة، (17/ 30).
([2]) جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: أحمد زكي صفوت، (1/ 196).
([3]) المصدر السابق، (1/ 197).
([4]) المصدر السابق، (1/ 145).
([5]) المصدر السابق، (1/ 225).
([6]) تاريخ الطبري، (6/ 57).
([7]) البداية والنهاية: لابن كثير، (7/ 241).
([8]) المصدر السابق، (7/ 241).
([9]) جمهرة خطب العرب: أحمد زكي صفوت، (1/ 466).
([10]) جمهرة خطب العرب: أحمد زكي صفوت، (2/ 307).
([11]) سيرة عمر: لابن الجوزي، ص: 201.