12 فبراير 2025

|

التلاوة المعرفية للقرآن.. الفريضة الغائبة

يستعد المسلمون لاستقبال شهر رمضان، ويتهيؤون لاستحضار القرآن الكريم، للنهل من خيراته، إلا أن أغلب هذا الاستحضار، هو استحضار صوتي لفظي أو بصري للحروف والكلمات والآيات، ولا يتجاوز ذلك إلى العقل أو الوجدان، أو السلوك والقيم، ومن ثم لا يصل القرآن بالطبع مع هذا النمط إلى مواقف الأمة أفرادًا وجماعات وشعوب ودول. نحاول في هذه المقالة الموجزة بيان وجه آخر لاستحضار القرآن في الأمة، وهو نمط واجب الاستحضار لكنه غائب: هو نمط التلاوة المعرفية، حيث نقدم إطلالة حول هذا المفهوم وضرورته في هذه السطور.

معنى التلاوة، والتلاوة المعرفية:

جاء في معنى "التلاوة" في قوله تعالى ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة:121]: الاتباع الحق، وحق الاتباع، واتباع الأوامر والنواهي، والعمل بمحكمه، وإحلال الحلال وتحريم الحرام، والإيمان بمتشابهه، والعمل بأحكامه وشرائعه. 

يذكر القرطبي في قوله ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ أي: يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه، فإنه بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق. قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.

ويبين الرازي أن التلاوة لها معنيان: أحدهما: القراءة، والثاني الإتباع فعلاً، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلًا.  والذين تأولوه على "القراءة، عددوا معنى القراءة على وجوه: أولهما: أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما. وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته، وخشعوا إذا قرؤا القرآن في صلواتهم وخلواتهم. وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه. وتوقفوا فيما أشكل عليهم وفوضوه إلى الله سبحانه. ورابعها: يقرؤنه كما أنزل، لا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولونه على غير حق. وخامسها: أن تحمل الآية كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها لفظًا ومعنى. ويؤكد الراغب على أن معنى الاتباع والاقتداء للتلاوة لا يكونان إلا بالعلم والعمل.

ويربط ابن عاشور بين قوله ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ والمعرفة: فالحق هنا ضد الباطل والتلاوة الحقة تكون بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ ولم يفهم جميع ما أراده قائلُه كانت تلاوته غامضة، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو.

ويؤكد محمد عبده في المقصود بـ ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾: أنه عَبَّر عن التدبر والفهم بـالتلاوة "حق التلاوة" ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة. ويضيف بأن الاستهداء بالقرآن، واجب على كل مكلف في كل زمان ومكان، فعلى كل قارئ أن يتلو القرآن بالتدبر وأن يطالب نفسه بفهمه والعمل به.

وعلى هذا فإن تلاوة القرآن حق تلاوته تتطلب عدة عمليات: قراءة مستقيمة، وفهم للمقروء، وتعلم لبيانه، وعمل بمقصوده، واتباع لطريقته، واستهداء بهداياته. وهذا هو جوهر التلاوة المعرفية المقصود فيما نروم إليه في هذه المقالة التمهيدية.

ممهدات التلاوة المعرفية للقرآن

    من ناحية أخرى: نلحظ ممهدات التلاوة المعرفية للقرآن، فيما يتضمنه القرآن ذاته، حيث ترادفت معنى كلمة "التلاوة" للقرآن مع معان تمثل إطارًا لفهم مقاصد لفظة التلاوة ومرادها لدي القارئ للقرآن، ومن هذه المعاني: التعليم والتزكية: ) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ( [البقرة:151]. والهداية )وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ  وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ( [النمل:92]. والبيان )رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ ( [الطلاق:11]. إن تلاوة المسلم للقرآن ينبغي أن تحقق هذه المقصودات الثلاثة: التعليم والتزكية والهداية والبيان. بالإضافة إلى ما يتعلق بهذه الثلاثة من مقصودات تابعة مثل: المعرفة الشاملة بحقائق الهدايات التي قدمها القرآن، سواء تعلقت هذه المعرفة بالتكليفات أو المقاصد القرآنية أو المعرفة التاريخية أو غي ذلك من الحقائق التي تضمنها القرآن الحكيم. 

القرآن: من القابلية الذاتية للتلاوة المعرفية إلى الفرضية الإلهية

    يمتلك القرآن قابلية ذاتية للتلاوة باعتباره كتاب مدون ومرسل به إلى الإنسان، وكل إنسان يأتيه كتاب فإنه يقوم بقراءته وتلاوته في مرحلة أعلى من القراءة عندما يجد فيه ما يجيبه على تفصيلات وتساؤلات يبحث عنها من أجل وجوده الكوني والاجتماعي. بل يزيد على تلك القابلية للتلاوة المعرفية بأن هذه التلاوة المعرفية للقرآنية فريضة إلهية، وذلك بقيمة ومكانة ووظيفة القرآن لدى الإنسان، فإنه كتاب هدى ومفصل على علم وحديث صادق لا افتراء ولا مراوغة فيه، ويزخر بالبينات والتفصيلات- فضلًا عن الكليات والتصورات الأساسية للإنسان- فكل ذلك وغيره من أوصاف ثابتة في القرآن توجيه إلى تحقيق التلاوة المعرفية لهذا الكتاب الحكيم.

 ومما نلحظه في هذه القابلية القرآنية قوله تعالى: )ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ( [البقرة:2]. )جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ( [الأنعام:157]. )جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ( [الأعراف:52]. )مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ( [يوسف:111]. )وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ([النحل:64]. وغير ذلك مما يزخر به الذكر الحكيم.

مقاصد التلاوة المعرفية للقرآن

تهدف التلاوة المعرفية للقرآن إلى الوقوف على هدايات القرآن للإنسان، والتي تتحقق بها: "الشاكلة القرآنية" ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا﴾ [الإسراء:84] والشاكلة هي الدِّين ﴿وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا﴾ [الجن:16]. أي القرآن. إن التلاوة المعرفية تقصد إلى الوقوف على بيان هدايات: العقل والمعرفة، وهداية النفس والوجدان، وهداية الاجتماع والنظم الاجتماعية، وهداية السلوك والجوارح، وهداية نظام الكون (العالم). التي جاء بها القرآن إلى الإنسان لهدايته وهداه وإلى المجتمع لرشادته ورشده وإلى العالم لإصلاحه وصلاحه. ففيه –أي القرآن- كل ما ممكنات التكوين والهداية والإصلاح للإنسان والكون ليكونا على الطريقة القرآنية (الشاكلة القرآنية). 

تساؤلات التلاوة المعرفية للقرآن

    إن القرآنَ لا يعطي لمستغني، ولكنه يحتاج إلى من يسأله، وبقيمة السؤال وجدارته يجيب القرآن. ويمكن في ضوء مقاصد التلاوة المعرفية للقرآن أن نحدد أهم التساؤلات التي نبحث في القرآن عن إجابات لها من خلال التلاوة المعرفية السؤال الأول: ما الذي يريده القرآن منا؟ التوحيد: )يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا([النور: 55]

السؤال الثاني: ما الذي يريده القرآن فينا؟ الشاكلة القرآنية  )قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا( [الاسراء : 84].

السؤال الثالث: كيف تتحقق مرادات القرآن؟ المسار الوحيد لتحقيق مرادات الله منا وفينا: هو: الاهتداء إلى الصراط المستقيم ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153].

يمكن القول إن هذه التساؤلات الثلاثة تمثل الخطوط الرئيسة والكلية لمنهجية "التلاوة المعرفية للقرآن" المرجوة.. والتي من خلالها يتم اكتشاف مقاصد التنزيل الإلهي لهذا الوحي الكريم المجموع بين دفتي الكتاب المسمى "القرآن" المتعبد بتلاوته المتنزل على محمد – ﷺ – فالتلاوة المعرفية للقرآن: تلاوة باحثة، ليست تلاوة ترديدية – أي محض صوتية حنجورية – لكنها تلاوة تنحو منحى الدراسة (تَدْرُسُونَ) تأمل وبحث (تَعْقِلُونَ- يَتَفَكَّرُونَ) واكتشاف للإجابات التفصيلية السابقة: منا وفينا وكيف؟ 

وهذه التلاوة الباحثة: تلاوة طوافة حول الكلمة القرآنية، وحول الجملة القرآنية، وحول السورة القرآنية. تلاوة طوافة تبدأ عند أحد هذه الثلاثة، وتنتقل للثانية ثم الثالثة، ثم تعود لتحدد مستخلصها في هذه المرادات: وتسجله في النفس أولاً، ثم العقل، ثم السلوك. وهذه التلاوة الطوافة، تلاوة وقافة: لكل لفظ معنى ودلالة، ولكل جملة كذلك، ولكل سورة غاية ومقصد. فالتوقف هنا من أجل تحقيق العلم المطلوب: المعنى والدلالة، المكانة والموقع والغاية والمقصد من اللفظة إلى الجملة إلى السورة القرآنية. 

عن ابن مسعود قال: كنا نتعلم من رسول الله – ﷺ – العشر، فلا نتجاوزها إلى العشر الأُخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل. [أخرجه الطبري].

فالتلاوة المعرفية للقرآن – على هذا النحو المبين- هي بعث لأصيل في الأمة تم إهماله في تعامل المسلمين المعاصرين. وهذا وجه من وجوه التجديد المحمود شرعاً وعقلاً والمطلوب على وجه الضرورة أيضًا شرعًا وعقلًا وحضارة. 


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة