يوم الميلاد!

إيمان مغازي الشرقاوي

12 ديسمبر 2023

3712

استيقظت من نومها في هذا اليوم كعادتها وهي تردد بصوت مسموع: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد عليَّ روحي وأذن لي بذكره»، قالتها في هذا اليوم وهي تتذوق معنى كل حرف فيها وترى فيه معنى الحياة من بعد الموت، فقد أحياها الله المحيي بقدرته سبحانه، أحياها من بعد نومها وموتتها الصغرى فإذا هي تتحرك وتتكلم وتدب فيها الحياة من جديد، لتمارس عملها ونشاطها اليومي المطلوب منها.

ورددت في نفسها ممتنة لربها؛ يا لها من نعمة عظيمة أن أستيقظ كل صباح وقد عافاني الله في جسدي لعبادته وأطلق لساني لذكره! فتحرك لسانها حامداً فضله شاكراً هذه النعمة التي ألِفتها كل يوم حتى صارت أمراً معتاداً لا تشعر به ولا تتوقف عنده في كثير من الأحيان!

فما بالها اليوم تتذكر وتستشعر تلك النعمة وتوقن في قرارة نفسها أنها عظيمة وتستحق الحمد العظيم، وأن عافية جسدها وروحها التي ردها الله إليها في هذا اليوم لا تقارَن بمال الدنيا جميعه ولا بكنوزها كلها؟!

لكنها لم تلبث أن أدركت سِرَّ ذلك، ففي مثل هذا اليوم من سنين مضت كان يوم ميلادها، أخرجها الله تعالى فيه من بطن أمها فمنَّ عليها بالحياة لتوحده وتعبده وتعمر أرضه بالإصلاح فيها.

الأمل

كلما أتى يوم ميلادها يلفها الأمل، ويتجدد في نفسها الامتنان لله تعالى واهب الحياة، فترجو أن يطيل الله في عمرها وتكون ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (رواه الترمذي)، وها هي اليوم تتجدد المنة عليها وقد وهبها الله يوماً جديداً في حياتها ومنحها فرصة أخرى لا تُعوض، قد حُرم منها غيرها، فالحمد لله الذي أمد في عمرها وبارك فيه؛ ليزداد رصيدها من عمل صالح لنفسها تعمله، أو معروف لغيرها تقدمه، أو ولد تعلمه ليشب صالحاً، أو دعوة إلى الله تقوم بها تحيا معها القلوب، رددت من أعماق قلبها: الحمد لله.. الحمد لله أن وهب لي الحياة.

إنها لا تتذكر أحداث ولادتها، وأنَّى لها التذكر وقد كانت لا تعي من أمر دنياها شيئاً، لكن الحقيقة التي كبرت معها وشعرت بها منذ ولادتها التي لا يمكن نسيانها هو حضن أمها الحنون المربية الصابرة التي تولت رعاية بذرتها حتى نمت، وروتها من معين حبها حتى شبت، وحَمتها من شياطين الإنس والجن بدعواتها حتى كبرت.

وتساءلت في نفسها: لو كنتُ أحتفل بيوم ميلادي حقاً لاحتفلتُ بها هي؛ أمي الغالية، أليس من الإنصاف أن أتذكرها وقد ولدتني في مثل هذا اليوم، وعانت من آلام الوضع ما عانت، وسعدت رغم هذا الألم، وسهرت وهي تحتاج مزيداً من النوم، وأرضعت وتعبت وعلَّمت وربّت؟! أليست أوْلى بكلمات التكريم والاحتفاء والحب والدعاء في هذا اليوم، بل وفي كل يوم؟! فرفعتْ كفيها داعية لها بكل خير.

يوم الميلاد

تمر عليها الساعات والأيام، والشهور والأعوام، وما تشعر إلا وانقضى من عمرها عام وراء عام! تشعر بالارتياح لبلوغها يوماً جديداً يضاف لأيامها، تتجاذبها الأفكار في تلك اللحظات، ومع أول نفَس من أنفاس فجر هذا اليوم أدركت أنها قد خلفت وراءه أياماً عديدة تساقطت من شجرة عمرها، هي أوراق سنوات مضت وشهور انقضت وولت إلى غير رجعة، خُتم فيها على كتاب أعمالها الذي (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: 49).

ارتجف فؤادها وكاد أن ينخلع من مكانه، وهي ترى كتابها وقد خطته طيلة هذه السنوات؛ كم فيه من كلمة تكلمت كان عليها أن تمسك عنها! وكم من نظرة وجب عليها عندها أن تغض من بصرها! وكم من عمل كان لنفسها فيه حظ من شهوة خفية أو سمعة أو عُجب! كم من خير أجَّلت! وكم من عبادة سوَّفت! وكم من تقصير كان منها..!

وتساءلت في نفسها: هل لي أن أوقد شموع الميلاد فرحاً أو أن أتراقص معها طرباً في يوم ميلادي وأسميه عيداً؟! لماذا يجعل البعض منه يوماً للهو والعبث وتضييع الأوقات بدلاً من أن يكون سبباً في شكر الله على نعمة الحياة وتقرباً إليه بالتوبة ومحاسبة النفس؟

امتزجت مشاعرها واختلطت وهي تتذكر ما مضى من عمرها وقد مرَّ مرور البرق وكلمح البصر، وأيقنت أنها تحتاج وقفة جادة للمراجعة والحساب لتزيد من رصيد الحسنات عند الله وتكتنز من كنوز الخيرات الكثير، ألم يقل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزَنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة: 18).

الميلاد الحقيقي

إن يوم الميلاد الحقيقي للإنسان يوم أن يحيا بالإيمان ويثبت عليه رغم المغريات، فينبض قلبه بحب الله، ويرى في ساعات عمره أرضاً خصبة لغراس سنابل الخير في نفسه وأهله وإخوته من المسلمين في كل مكان، فيكون عوناً وسنداً لكل منهم، يواسيهم ويتداعى من أجلهم، ويدفع عنهم ما يؤذيهم وما يضرهم، ويذكرهم في صلاته بدعائه.

وإن يوم الميلاد ليس عيداً مشروعاً يُحتفى به كاحتفائنا بعيد الفطر أو الأضحى، كما أنه ليس يوماً للهو والعبث وإيقاد الشموع وإطفائها على نغمات الغناء والموسيقى، إنما هو ميلاد جديد لكل مؤمن يرى في استمرار أنفاسه غنيمة لا تُقدر، وفي ساعات عمره وسيلة غالية توصله إلى رضا الله الذي امتن عليه بالحياة.

كما أنه يُشعِر ويذكِّر بالعهد الذي أخذه الله على بني آدم إذ استخرجهم من أصلاب آبائهم، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 172)؛ فيتجدد العزم على عبادة الله تعالى بما شرع، وطاعته كما أمر، ويحرص المسلم أن يراه ربه حيث أمره؛ ويلهج لسانه بالثناء عليه حمداً وذكراً وشكراً.

وما أجمل الحياة حين يكسوها ثوب الحياء من الله عز وجل، ويزينها رداء التقوى الداعي إلى طاعته وحسن عبادته! فتكون كل الأيام أيام ميلاد.


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة