«حماس» وأسر الجنود «الإسرائيليين».. خيار إستراتيجي يربك الاحتلال

في ظل التصعيد
المستمر في غزة، ومع تزايد العمليات الميدانية للمقاومة الفلسطينية، يطفو إلى
السطح خيار إستراتيجي مهم تتداوله الأوساط السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني،
ويتمثل في إمكانية لجوء حركة «حماس» إلى أسر جنود «إسرائيليين» خلال المواجهات أو
عبر عمليات خاصة خلف خطوط العدو.
هذا الخيار الذي
يبدو واردًا أكثر من أي وقت مضى، ليس خطوة تكتيكية محدودة، وإنما توجه إستراتيجي
له أبعاد تتجاوز حدود الميدان لتصل إلى عمق المجتمع «الإسرائيلي» وتوازناته
السياسية.
ومنذ سنوات،
راكمت المقاومة خبرات كبيرة في هذا المجال، بعض محاولاتها نجح وأدى إلى صفقات
تبادل، كما حدث في قضية الجندي جلعاد شاليط، وبعضها ما زال مستمراً منذ 7 أكتوبر
الذي أسرت المقـاومة خلاله أكثر من 250 أسيرًا ما زال 48 في يد المقاومة، وهم
الجنود الذين تم أسرهم من دبابتهم والمواقع العسكرية، وأطلقت خلال صفقات عدة
المستوطنين والمجندات وجنود الاحتياط وجنود مرضى، ومع فشل الجيش «الإسرائيلي» في
تحقيق حسم بعد أكثر من 700 يوم من العدوان على غزة، يصبح خيار الأسر ورقة جاهزة
على الطاولة، تمنح المقاومة قوة إضافية وتزيد من مأزق الاحتلال.
لماذا خيار الأسر الآن؟
القرار بالذهاب
نحو هذا الخيار ينبع من عدة اعتبارات:
أولًا: المقاومة
تدرك أن أي عملية أسر تعني ضربة مباشرة لهيبة الجيش «الإسرائيلي»، الذي يقدّم نفسه
على أنه قادر على السيطرة الكاملة على غزة.
ثانيًا: الأسر
يفتح الباب أمام مفاوضات جديدة على صفقات تبادل، وهو ما يعيد الأمل لآلاف الأسرى
الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
ثالثًا: هذه
العمليات تترك أثرًا نفسيًا عميقًا داخل المجتمع «الإسرائيلي»؛ حيث يصبح مصير
الجنود قضية رأي عام ضاغطة على الحكومة والجيش معًا.
كما أن هناك
اعتبارات تتعلق بالتوازن الداخلي في الكيان الصهيوني، فالجيش والحكومة يعيشون حالة
خلاف واضحة حول إدارة العمليات في غزة، والمعارضة تستغل هذه الثغرات لتوجيه النقد.
في مثل هذا
المناخ، فإن أي نجاح للمقاومة في أسر جنود سيكون له وقع مضاعف؛ لأنه يفتح جبهة
جديدة من الاتهامات والتوترات داخل المؤسسة «الإسرائيلية» نفسها.
التأثير المتوقع على الجيش والمجتمع «الإسرائيلي» من عمليات الأسر
الجيش «الإسرائيلي»
يضع دائمًا قضية الجنود المفقودين أو الأسرى في صدارة أولوياته، ليس فقط لأسباب
إنسانية، بل لأن القضية تمس ثقة المجتمع بالجيش؛ أي عملية أسر تعني أن القوات «الإسرائيلية»
ليست قادرة على حماية نفسها؛ وهو ما يضرب معنويات الجنود في الميدان ويجعل الخدمة
في غزة مصدر قلق دائم.
أما المجتمع «الإسرائيلي»،
فينظر إلى هذه القضية بحساسية استثنائية؛ فقد تحولت في السابق قضية جندي واحد إلى
أزمة سياسية هزت الحكومة وأجبرتها على الدخول في مفاوضات صعبة؛ وعليه، فإن وقوع
أكثر من جندي في قبضة المقاومة سيخلق حالة ضغط داخلي غير مسبوقة، تضعف الحكومة
وتزيد من حدة الخلافات داخل «إسرائيل».
تجارب ومحاولات سابقة لأسر جنود الاحتلال
المقاومة لم
تطرح هذا الخيار حديثًا، فهناك سجل طويل من المحاولات التي تؤكد جدية التوجه؛
مثلًا، حاولت المقاومة تنفيذ عملية نوعية لم تكتمل لكنها أثبتت قدرتها على اختراق
منظومة الجيش، ففي خان يونس جرت محاولة لاستهداف سائقي شاحنات «إسرائيلية»، الهدف
منها لم يكن الأسر المباشر فقط، بل اختبار قدرة الجيش على التعامل مع هذه العمليات،
وفي حي الزيتون، ظهرت عمليات مشابهة ركزت على إيقاع خسائر مباشرة بالجيش، لكنها
عكست في الوقت نفسه بحث المقاومة الدائم عن فرص لالتقاط جنود أحياء.
هذه المحاولات،
رغم ما واجهته من عقبات، شكلت خبرة تراكمية عززت ثقة المقاومة بقدرتها على تحقيق
نجاح أكبر في المستقبل، والأهم أنها كشفت ثغرات في المنظومة العسكرية «الإسرائيلية»
يمكن البناء عليها في عمليات لاحقة.
السيناريوهات المحتملة لخيار الأسر
من خلال قراءة
الوضع الميداني والسياسي، يمكن تصور 3 سيناريوهات رئيسة لتعامل المقاومة مع خيار
الأسر:
الأول: الأسر
المحدود؛ تنجح المقاومة في أسر جندي أو اثنين عبر عملية خاطفة.
هذا السيناريو
له أثر نفسي وإعلامي واسع، لكنه يظل في نطاق محدود ما لم يُستخدم كورقة تفاوضية.
الثاني: الأسر
التفاوضي؛ حيث تحتفظ المقاومة بجنود في قبضتها، وتبدأ في استخدامهم كأداة ضغط
لإبرام صفقة تبادل واسعة، هنا تتحول القضية إلى أزمة سياسية كبرى داخل «إسرائيل»،
وتُضطر الحكومة لتقديم تنازلات.
الثالث: الأسر
الجماعي؛ وهو الأكثر خطورة، إذ تسعى المقاومة إلى أسر مجموعة من الجنود دفعة واحدة
من خلال هجوم منظم على موقع عسكري، كما حدث في هجو فصيل عسكري كامل من «كتائب
القسام» على موقع لقيادة جيش الاحتلال شرق خان يونس، قبل أسابيع، وجرت محاولات أسر
جنود لكن انتهت العملية باستشهاد بعض المقاومين ومقتل وإصابة عدد من جنود
الاحتلال، واعتبرها الاحتلال ثغرة كبيرة في صفوفه وكادت أن تنجح في أسر عدد من
الجنود.
هذا السيناريو
سيشكل صدمة إستراتيجية للجيش «الإسرائيلي» ويحدث زلزالًا سياسيًا في «تل أبيب»،
وربما يعيد رسم قواعد الصراع بالكامل.
الانعكاسات السياسية والإستراتيجية على الاحتلال
نجاح المقاومة
في أي من هذه السيناريوهات سيؤدي إلى نتائج إستراتيجية بعيدة المدى.
«إسرائيل» ستفقد
ثقة الجمهور بقدرتها على تحقيق الحسم، كما سيظهر الجيش بمظهر العاجز عن حماية
أفراده.
وعلى المستوى
السياسي، ستزداد الانقسامات بين الحكومة والجيش والمعارضة؛ ما يضعف قدرة «إسرائيل»
على صياغة سياسة موحدة تجاه غزة.
وعلى الصعيد
الدولي، ستتعزز صورة المقاومة كقوة منظمة قادرة على فرض شروطها، في مقابل تراجع
صورة «إسرائيل» التي تخوض حربًا طويلة بلا نتائج ملموسة.
التحديات أمام المقاومة
رغم وجاهة هذا
الخيار، فإن تنفيذه ليس سهلًا، الاحتلال يمتلك قدرات استخباراتية متطورة، ويستخدم
التكنولوجيا لمراقبة كل التحركات داخل غزة؛ فأي محاولة أسر تنطوي على أخطار كبيرة
للمقاتلين المنفذين، وقد تواجه بعمليات عسكرية «إسرائيلية» شرسة.
كما أن الاحتفاظ
بالأسرى وإدارتهم في بيئة معقدة مثل غزة يتطلب ترتيبات أمنية ولوجستية عالية
المستوى، ومع ذلك، فإن المقاومة التي خبرت هذا الطريق في السابق تدرك هذه التحديات
وتعمل على تجاوزها بوسائل مختلفة.
الأسر أداة لتغيير قواعد اللعبة في الصراع مع «إسرائيل»
خيار أسر الجنود
«الإسرائيليين» يمثل اليوم ورقة إستراتيجية بالغة الأهمية في يد المقاومة
الفلسطينية؛ فهو يضرب في عمق المعادلة «الإسرائيلية»، ويكشف هشاشة الجيش والمجتمع
والسياسة في آن واحد، والتجارب السابقة أثبتت أن المقاومة تملك القدرة والإرادة
لخوض هذا الطريق، والسيناريوهات المحتملة تشير إلى أن أي نجاح في هذا الملف سيغير
قواعد اللعبة بشكل جذري.
«إسرائيل» جاءت
إلى غزة وهي تعتقد أن بإمكانها فرض الحسم وإخضاع القطاع، لكن أي عملية أسر ستعيد
التذكير بأنها لم تنجح في تحقيق أهدافها، وأنها غارقة في مأزق معقد بلا مخرج واضح.
بالنسبة
للمقاومة، فإن هذا الخيار يفتح الباب واسعًا لمرحلة جديدة من الصراع، يكون فيها
الاحتلال في موقع الدفاع، بينما تمتلك المقاومة أوراق القوة والضغط التي تجعلها
أكثر تأثيرًا على مسار الأحداث داخليًا وإقليميًا ودوليًا.