في رمضان.. ابحث عن نفسك تجد ربك

يظنُّ عامة المسلمين أنَّ الصيام مجرد إمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فحسب، ثم ينطلقون في حياتهم لاهين لاعبين غافلين عن فرصة عمرهم ومنهجية فوزهم وخلاصهم، ويرى البعض الآخر أنَّ رمضان فرصته السانحة لتوثيق الصلة بخالقه، عن طريق قراءة القرآن، والقيام، والصدقات، ولا شك أنَّ هذا مسلك جيد.
ففي الشهر المبارك يتوقف المؤمن عن ملذاته، فيصوم جسده عن الطعام والشراب، ويجاهد نفسه ليطهر روحه من الشوائب، لكن هل فكرنا يوماً أن هذا الشهر فرصة لاكتشاف أنفسنا، وأنه في لحظات الصيام والقيام، يمكننا أن نلتقي مع ذواتنا الحقيقية ونكتشف طريقنا إلى الله؟
هناك حقيقة لا ينبغي إغفالها، ومنهجية لا يقبل تجاهلها؛ ألا وهي اكتشاف الروح في رمضان، فحينما يهذب العبد جسده بالامتناع عن بعض متطلباته، يدرك أنه يمكنه أن يأخذ بزمام نفسه فيطوعها ولا تطوعه، وحينئذ يكتشف السالك أنه ليس هو ذاك الجسم الجائع في نهار رمضان والمثقل في لياليه، بل هو شيء أعظم من كل ذلك، سيكتشف تلك الروح المباركة التي حلت فيه، بل كانت غائبة خلف سماكة الجسد وكثافته؛ ما حجبها عن المعرفة وغيبها عن منصة التكريم والارتقاء.
ادخل رمضان وقد أزلت عن نفسك غبار المشاحنة وأثقال المنازعات وعفوت وفوّضت الأمر لله
وفي كل عام يعود إليك رمضان ليذكرك أن حياتك لا تكمن في عبور الأيام المادية فحسب، بل في تجديد العلاقة مع نفسك أولاً، ثم مع الله، إن روحك إذا تحررت تألقت، فيرى الإنسان الدنيا على غير ما هي عليه، بل إنَّه يرى أنَّه ليس وحده في هذا الكون، بل سيشعر أن الأرواح موجودة في كل شيء، وأن كل روح حلت في جسد مختلف، وحينما تتفقد الأرواح من حولك، تجد أُنسك في أي مكان كنت، وإن غابت عنك الأرواح، استشعرت الوحشة، وإن كنت في زحام البشر.
إن روحك تستصرخك أن تنقذها من الأسر لتنعم بالحرية والترقي؛ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ) (البلد)، ولا أعلم رقبة في حاجة إلى الفكاك والتحرر من روحك التي في داخلك، إنها بحاجة إلى أن تحررها من أسر شهواتك، وقيد غرائزك، وسجن جسدك، ليكون قرار إفراجها: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (الفجر).
ساعتها ستنادي على قلبك: أين أنت يا قلب؟ أين ضاع منك المسار؟ هل كنت تسير في طريقٍ أوهامك، أم أنك كنت تعيش في ظلال الحقيقة وتبتغي لقاءً مع الخالق؟
في هذا الشهر العظيم، تقف الحياة لتسمعك صوتاً يناديك، يستحث روحك لتسمع، ويوقظ قلبك ليعي، ولكي تسمع تلك الرسالة واضحة، يلزمك أولاً أن تبذل كل جهد لديك لإسكات صوت جسدك، ورغبتك، وشهوتك، وغريزتك؛ فتجد نفسك تنتقل من حالة من الركود الروحي إلى حالة من السكون في حضرة الله، وأنت إذ تعيد اكتشاف نفسك في صيامك، تجد أنك قد تراكمت فيك جوانب كثيرة من الصفاء الداخلي والطمأنينة الروحية، تلك هي الهداية، أن تعيش مع الله، أن ترى أثره في كل شيء، يدعوك ربك لأن تجد نفسك، في لحظة هدوء، في لحظة تأمل، بل في لحظة بحث حقيقي صادق عن روحك الأسيرة، وربك الجليل.
ابحث عن نفسك في محراب الليل والقرآن المشهود والنزول الإلهي في سحر التجلي والعطاء
إن من أهم الشروط للعثور على الروح المنيرة فيك، بل العثور على ذاتك الحقيقية وجوهرك النفيس، أن تدخل رمضان وقد أزلت عن نفسك غبار المشاحنة وأثقال المنازعات، وعفوت عمن استطعت العفو عنه، وفوّضت الأمر لله فيمن لا طائل لديك من التغاضي عن مظالمه، فإن أثقل ما يحجب القلب، ويميت الروح، هي تلك المشاحنات والمنازعات، التي تظل بالدين حتى تقتلعه من قلبك، أو كما في الحديث الشريف: «.. فإنها الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، بل تحلق الدين» (رواه الترمذي).
فارفع عنك ركام الإحن فإنه قاتلك، وخفف من غلواء نفسك، وفرغ من ذهنك وقلبك وعقلك مساحة تتناسب وطموحاتك في رمضان، لتعلو الروح على متطلبات الجسد، وتصفو النفس فوق تطلعات البدن، فإنك لن تنال من رمضان إلا بحسب ما أعددت من نفسك، وفرغت من قلبك، وتيقنت أن الإمداد على قدر الاستعداد.
وفي الصيام، لا بد أن تدرك من أول ليلة في الشهر أن أبرز ما يجب أن تبحث عنه في رمضان هو روحك المختفية تحت ركام جسدك، إن فيك روحاً مضيئة، لو عثرت عليها لوجدت كنزك المفقود، وروحك المفقودة تجدها حينما يكون الصيام تطلعاً للرضوان، وسبيل ذلك عمق التدبر في الآيات المباركات التي قد تفتح آية واحدة منها مغاليق قلبك فتحدث فيك إعجازاً ينير بصيرتك، فترتقي من عالم الطين اللازب إلى ساحة التعرف والتحبب والإخبات؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) (الشورى: 52).
ابحث عن روحك عند المكلومين فواسهم وعند المظلومين فخذ بيدهم وناصرهم وكن لهم معيناً
ابحث عن الآية التي تنفض عنك غبار الغفلة، فتعيد إلى عينيك سيلان دموعها، وإلى قلبك دقات خشوعه ونبضات خضوعه وسكينة استسلامه وأشواق محبته، ابحث عن نفسك في جوع البطن الخاوية، واعلم أن هذا الجوع أو العطش هو رسالة تنادي الروح أن تقدمي، فقد ضعف تأثير الطين، وهذا أوان خلاصك، فجددي الوصال، وترقي في الصعود في معارج السالكين.
ابحث عن نفسك في محراب الليل، والقرآن المشهود، والنزول الإلهي في سحر التجلي والعطاء، وابسط يدك وناجِ ربك: (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف: 88)؛ فلن يخيِّب رجاءك.
ناجِ ربك في يقين من اطلاعه عليك قائلاً: يا رب، نهيت عبادك عن رد السائل وزجره، فقلت وقولك الحق: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (الضحى: 10)، وإني سائل على باب عفوك وكرمك فلا تردني خائباً، وخلصني من شقوة نفسي وحجاب قلبي، أو كما كان أحدهم يناجيه طالباً العثور على نفسه: رب خذني إليك مني، وارزقني الفناء عني، ولا تجعلني مفتوناً بنفسي محجوباً بحسي.
ابحث عن نفسك في مواطن الفيوضات الربانية، وأماكن المنح الرحمانية، فاجلس في مجالس العلماء مزاحماً السائرين بالركب، مستحضراً حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر الثلاثة الذين وفدوا إلى مجلسه؛ فأمَّا أحدُهُما فوجدَ فُرجةً في الحلقةِ فدخلَ فيها، وأمَّا الآخرُ فجلسَ وراءَ النَّاسِ، وأدبر الثَّالث ذاهباً، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أمَّا أحَدُهُمْ فأوَى إلى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ منه، وأَمَّا الآخَرُ فأعْرَضَ فأعْرَضَ اللَّهُ عنْه» (رواه البخاري).
إذا وجدت روحك ستكون ليلة القدر ليلة مولدك وختام رمضان يقين عتقك.. عرفت فالزم
ابحث عن نفسك قد تجدها عند مريض تزوره فيفتح الله لك عنده في معيته باباً للتعرف يغنيك، وباباً للهداية يرشدك تحت سقف؛ «أما إنك لو زرته لوجدتني عنده».
ابحث عن قلبك عند المنكسرة خواطرهم؛ فاجبرها، وعند المنكسرة قلوبهم؛ فداوها، فقد قال موسى: «ربي، أين أجدك؟»، قال: «تجدني عند المنكسرة قلوبهم».
ابحث عن روحك عند المكلومين؛ فواسهم، وعند المظلومين؛ فخذ بيدهم وناصرهم وكن لهم، وعند المحتاجين؛ فكن البسمة التي ترسم على وجوه طالما رسم العبوس عليها من خطوطه وآثاره.
ومن خلال هذا الصوم، نجد أنفسنا نقترب من ذواتنا أكثر، نغلق أبواب الشكوك ونفتح أبواب الإيمان، نكتشف كم هو عظيم فضل الله علينا، ونعرف كم نحن في حاجة إليه، قد نكتشف في رمضان أننا كنا بعيدين عن الله أكثر مما نعتقد، وأن قلبنا بحاجة ماسة لتجديد الإيمان والعودة إلى رحاب الرب المنان.
إذا وجدت روحك ستكون ليلة القدر ليلة مولدك، وصباحها يوم انطلاقك، وختام رمضان يقين عتقك، وتناديك روحك في بهجة وحبور: عرفت فالزم.