التوبة قبل العبادة

التوبة هي الرجوع من المعاصي إلى الطاعات، ومن السيئات إلى الحسنات، وهي من أعظم الطاعات والقربات، حيث أمر الله بها في قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
أسبقية التوبة للعبادة في وصف المؤمنين في القرآن
إن الناظر في آيات القرآن الكريم عن صفات المؤمنين والمؤمنات يجد أن الله تعالى قد ذكر في العديد منها التوبة قبل العبادة، يقول تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112)، ويقول تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) (التحريم: 5).
أسبقية التوبة للعبادة في الكلام عن العبادات في القرآن
حين تحدث القرآن الكريم عن العبادات، ذكر في العديد من الآيات التوبة قبل العبادة، ففي الطهارة يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة: 222)، وفي الكلام عن الصلاة قال تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الروم: 31)، وفي الكلام عن الزكاة قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة: 104)، وحين جمع بين الصلاة والزكاة جاءت التوبة قبلهما، وذلك في قوله تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 5)، وقوله عز وجل: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة: 11)، وفي آية أخرى يقول تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المجادلة: 13).
وفي الكلام عن الصيام جاءت الجملة الأخيرة من الآية السابقة لآية الصيام تتحدث عن أمارات التوبة، وهي نفي الإثم وإثبات المغفرة، حيث قال تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {182} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة)، وفي الكلام عن الحج جاءت أمارات التوبة قبل انقضاء المناسك، في قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة)، وعند الكلام عن قراءة القرآن الكريم يقول تعالى: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: 20).
أسبقية التوبة للإيمان والعمل الصالح في الكلام عن المغفرة ودخول الجنة
حين تكلم القرآن الكريم عن مغفرة الذنوب ودخول الجنة أسبق ذلك بالكلام عن التوبة، وكأنها شرط من شروط القبول وتحقق المغفرة والفوز بالجنة، ومن ذلك قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 39)، وقوله عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور: 5)، وقال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 119)، وقال عز وجل: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (القصص: 67)، وقال تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم: 60)، وقال أيضاً: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (طه: 82).
دلالات سبق التوبة للعبادة في آيات القرآن
1- التخلية قبل التحلية:
التوبة تخلية والعبادة تحلية، إذ التوبة تعني التخلي عن الذنوب والآثام، وتفريغ القلب منها، فإذا تطهر القلب جاءت العبادة إلى القلب الطاهر، فيتأثر بها ويلتزم بآدابها.
2- التوبة بداية الهداية:
فإذا أراد الله بعبده الصلاح والفلاح؛ هدى قلبه وشرح صدره، حيث قال تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طه).
3- التوبة من أسباب التوفيق للعبادة:
الذنوب تقيد العبد عن الطاعة، حيث إن الطاعة رزق من الله تعالى، ففي مسند أحمد عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»، وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: أَعْيَانِي قِيَامُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: قَيَّدَتْكَ خَطَايَاكَ(1)، وقال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل بذنب أحدثته خمسة أشهر(2).
4- التوبة من أسباب قبول العبادة:
من تاب فإن الله تعالى يقبل عبادته، حيث يقول عز وجل: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، وأكد سبحانه وتعالى أنه لا يقبل من المنافقين طاعتهم، لأنهم لم يتوبوا، حيث قال تعالى: (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ {53} وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة)، أما من تاب وعمل صالحاً فإن الله يقبل عبادته، ويبدل سيئاته حسنات، قال تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان: 70).
5- التوبة تهيئ القلب للعبادة:
إذا كان في القلب ذنوب ومعاصٍ، فإنها تحجبه عن الخشوع والصفاء للعبادة، فيكون مشغولاً بهواه، محجوباً عن مولاه، قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) (المطففين)، أما إذا تطهر القلب مما هو فيه من السيئات؛ فإنه يتهيأ للطاعات والعبادات، فيزيدها نوراً وجمالاً.
_______________
(1) التبصرة: ابن الجوزي (1/ 150).
(2) حلية الأولياء: الأصبهاني (7/ 17).