الشعب التركي يجدد الثقة بالرئيس «أردوغان»

أتمت تركيا، في مايو الماضي، انتخاباتها التشريعية والرئاسية، التي أسفرت عن فوز الرئيس «رجب طيب أردوغان» بولاية رئاسية جديدة لمدة 5 سنوات قادمة، بعد فوزه في جولة الإعادة، إضافة لفوز «تحالف الجمهور» الحاكم بأغلبية مقاعد البرلمان الجديد.
تنافس في الانتخابات التركية الأخيرة 24 حزباً سياسياً، توزع معظمها على 5 تحالفات رئيسة؛ هي «تحالف الجمهور» الحاكم المكون من أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والاتحاد الكبير، والرفاه مجدداً، و«تحالف الشعب» المكون من أحزاب «الطاولة السداسية» المعارضة؛ وهي الشعب الجمهوري، والجيد، والسعادة، والمستقبل، والديمقراطية والتقدم، والديمقراطي، و«تحالف العمل والحرية» المكون من حزبي الشعوب الديمقراطي، والعمل التركي، إضافة إلى تحالفين هامشيين.
«تحالف الجمهور» الحاكم حافظ على أغلبية البرلمان بـ322 نائباً من أصل 600
[caption id="attachment_297170" align="alignnone" width="1000"]توزيع مقاعد البرلمان التركي ( Yara Ramazan - وكالة الأناضول )[/caption]
وفي الانتخابات الرئاسية، تنافس كل من الرئيس «رجب طيب أردوغان» عن تحالف الجمهور، و«كمال كليجدار أوغلو» عن تحالف الشعب، و«سنان أوغان» عن تحالف الأجداد اليميني القومي، و«محرم إينجة» عن حزب البلد الذي بقي خارج منظومة التحالفات، وقد انسحب «إينجة» قبل الاقتراع بأيام إثر ضغوط مورست عليه بما في ذلك تهديده بنشر فيديوهات فاضحة له.
لم تسفر الجولة الأولى عن تجاوز أي من المرشحين الثلاثة لنسبة 50% من الأصوات؛ ما دفع للاحتكام لجولة إعادة بين أول مرشحَيْن؛ «أردوغان»، و«كليجدار أوغلو»، بين الجولتين تشظَّى تحالف الأجداد لفئتين؛ حيث أعلن المرشح الرئاسي «أوغان» عن دعمه للرئيس «أردوغان»، بينما تحالف رئيس حزب النصر، أكبر أحزاب التحالف، مع «كليجدار أوغلو».
أما في الانتخابات البرلمانية، وعلى عكس معظم التوقعات، فقد حافظ تحالف الجمهور الحاكم على أغلبية مقاعد البرلمان بواقع 322 نائباً من أصل 600، رغم تراجع نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية إلى 35%، فيما بقي تحالفا الشعب والعمل والحرية أدنى من 300 مقعد، مع خسارة الشعب الجمهوري تحديداً لما يقرب من 40 مقعداً برلمانياً للأحزاب الصغيرة معه في التحالف التي قدمت مرشحيها على قوائمه.
في انتخابات الإعادة للرئاسة، وبنسبة مشاركة بلغت 84%، جدد الشعب التركي ثقته بالرئيس «أردوغان» ومنحه مدة رئاسية جديدة بنسبة تصويت بلغت 52.1%، مقابل 47.8 لـ«كليجدار أوغلو»، وفق النتائج الأولية شبه الرسمية التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات، وقت كتابة هذا التقرير.
الدلالات
لا ينبغي أن يفوتنا في تقييم الاستحقاق الانتخابي الأخير أن نشير لسير العملية الانتخابية ذاتها، من حيث نسبة المشاركة المرتفعة جداً (88% في الجولة الأولى، و84% في الإعادة)، وكذلك على صعيد خلوها من أي خروقات كبيرة أو أحداث ملحوظة؛ وهو ما دفع مختلف الأطراف بما فيها الخاسرة للإشادة بـ«النضج الديمقراطي» الذي أظهره الناخب التركي؛ وبالتالي الخضوع للنتائج والقبول بما أفرزته الصناديق، وهذا مكسب كبير للتجربة الديمقراطية التركية ولا شك.
في المقام الثاني، هذا هو الفوز السادس عشر على التوالي لـ«أردوغان» وحزب العدالة والتنمية، وهو ما يمثل ظاهرة غير اعتيادية في الأحزاب التي تطول فترة حكمها في الأنظمة الديمقراطية؛ إذ يتراجع حضورها مع الوقت، ووفق النتيجة المعلنة يكون «أردوغان» وحزب العدالة والتنمية أطول مَن حكم تركيا على الإطلاق منذ تأسيس الجمهورية عام 1923م، وبشكل منفرد ومتواصل كذلك.
لا يقلل من أهمية هذا الفوز الدلالة المكملة لما سبق، وهي أن نسبة تأييد الحزب الحاكم تراجعت بشكل ملحوظ وبواقع 7% من الأصوات عن الانتخابات البرلمانية السابقة (عام 2018م)، التي مثلت تراجعاً بنسبة مشابهة عن التي سبقتها (عام 2015م)، كما أنها المرة الأولى التي لا يستطيع «أردوغان» فيها حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى.
ويبدو أن الفترة الطويلة الممتدة من الحكم المتواصل للبلاد بما تشمله من سلبيات وتداعيات وتحديات في مقدمتها الترهل وتراجع مستوى الأداء؛ السبب الأهم في هذا التراجع، ويضاف لذلك الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في البلاد مؤخراً، وتحديات أخرى في مقدمتها ملف اللاجئين السوريين.
ومن الدلالات المهمة انتهاء النقاش حول النظام السياسي في البلاد حتى 5 سنوات على أقل تقدير، حيث لم تفلح المعارضة في الفوز بأغلبية البرلمان كمتطلب أوَّلي لإمكانية إعادة البلاد للنظام البرلماني، وهي الفكرة الرئيسة التي جمعت أحزاب «الطاولة السداسية».
يضاف لما سبق، تقدم «كليجدار أوغلو» على «أردوغان» في بعض أهم المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، ولعل ذلك يعود في جزء منه لمنظومة التحالفات القائمة، وفي جزئه الآخر لمعاناة الطبقة الوسطى في المدن الكبرى من الأوضاع الاقتصادية أكثر من المدن الأصغر حجماً.
وأخيراً، من ضمن أهم دلالات مرحلة الإعادة تحديداً عدم استفادة «كليجدار أوغلو» من خطابه الشعبوي التحريضي ضد اللاجئين السوريين في تركيا؛ مغازلة لأنصار «سنان أوغان»، وخصوصاً التيار القومي المتطرف منهم، بل وخسارته بعض الأصوات في مناطق الأغلبية الكردية بسبب تحالفه مع حزب النصر، الذي تضمن إشارات مقلقة لأنصار الشعوب الديمقراطي، وخصوصاً ما يرتبط بفكرة تعيين أوصياء على البلديات التي يُحاكم رؤساؤها بتهم دعم الإرهاب.
الارتدادات
كان الاستحقاق الانتخابي الأخير استثنائياً، ومن الصعب أن تمر نتائجه دون ارتدادات وانعكاسات على مختلف الأطراف؛ ففي جهة التحالف الحاكم، لا شك أن العدالة والتنمية سيكون عليه مراجعة النتيجة بدقة، واستخلاص الدروس المستفادة من التصويت والوقوف على أسباب التراجع في تأييده ومحاولة علاجها، وإلا ستكون الانتخابات المقبلة أصعب عليه بمراحل.
بيد أن الارتدادات ستكون أكبر في معسكر المعارضة ولا سيما تحالف الشعب، وعلى وجه التحديد حزب الشعوب الديمقراطي، فرئيس الأخير والمرشح الرئاسي «كليجدار أوغلو» خسر المنافسة الانتخابية التاسعة على التوالي أمام «أردوغان» والعدالة والتنمية، ولا بد أن يكون لذلك ثمن سياسي، خصوصاً وأنه كان قد فرض نفسه فرضاً كمرشح رئاسي داخل حزبه، ثم على صعيد «الطاولة السداسية».
المرشح الخاسر «كليجدار أوغلو» فشل من خطابه التحريضي ضد اللاجئين السوريين
ولذلك، قد تكلفه الخسارة الأخيرة خسارة مقعده في رئاسة الحزب كذلك، لا سيما مع وجود معارضين أقوياء له في قيادة الحزب وشخصيات طموحة ترغب في الجلوس مكانه، وفي مقدمتها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى «أكرم إمام أوغلو».
كما أن «الطاولة السداسية» فقدت الرؤية الجامعة لها؛ أي النظام البرلماني، وعادت لخلافاتها السابقة، بل وقدمت مشهداً متشظياً عقب إعلان النتائج؛ حيث خرج رئيس كل حزب من أحزاب التحالف بمؤتمر صحفي منفرد وتقييم مستقل للنتائج، ما يوحي بأن التحالف في طريقه للتشظي، وهو أمر يتماشى مع حقيقة أن التحالفات الانتخابية في تركيا في العادة تكون سياقية وظرفية وتختفي بعد انقضاء الانتخابات.
تحديات مستقبلية
بعد الفوز، سيكون أمام الرئيس التركي وحزبه العدالة والتنمية تحديات للتعامل معها، فبعد إتمام الخطوات المتعلقة بانتخاب رئيس البرلمان وتشكيل الحكومة التي يتوقع أن يطالها تجديد واسع؛ سيكون على «أردوغان» التعامل مع رسائل الصندوق من جهة، والعمل على حل مشكلات تركيا القائمة من جهة أخرى.
وهنا، تتصدر ملفات الاقتصاد واللاجئين وإعادة إعمار مناطق الزلزال الملفات ذات الأولوية في المرحلة المقبلة، وقد شملت كلمة «أردوغان» عقب إعلان النتائج إشارات مهمة بهذا الخصوص، وستكون هذه الملفات تحديداً ميزاناً لتقييم الرئيس وحكومته في الفترة المقبلة.
أما على المديين المتوسط والبعيد، فسيكون «أردوغان» أمام مهمة إعادة هيكلة حزبه للتعامل مع المرحلة الجديدة أولاً، ولمحاولة استدراك الخلل الحاصل الذي أدى لتراجع حضور الحزب في المشهد السياسي والانتخابي من جهة أخرى، خصوصاً أن البلاد مقبلة على انتخابات محلية في مارس 2024م.
على «العدالة والتنمية» استخلاص الدروس وإلا ستكون الانتخابات المقبلة أصعب
وبهذا الصدد تحديداً، ستكون الانتخابات المحلية المقبلة تحدياً صعباً أمام العدالة والتنمية بالنظر لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث إن «كليجدار أوغلو» ورغم خسارته حافظ على تقدمه في كثير من المدن الكبرى، وفي مقدمتها إسطنبول وأنقرة، اللتان خسرهما العدالة والتنمية لصالح تحالف المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة في عام 2019م.
وأخيراً، فإن مشهد الاستقطاب في الانتخابات الأخيرة (52% مقابل 48%) سيحتاج على المدى البعيد لجهد كبير لئلا يتعمق أكثر في البلاد، وسيكون على «أردوغان» التعامل مع حقيقة أن هناك شرائح واسعة في الشعب التركي قدمت رسالة تحمل معنى الرغبة في التغيير، وهو تحد كبير مستقل بذاته أمام الرئيس والحزب الحاكم.