24 فبراير 2025

|

رمضان.. وعوائد الخير

عن معاوية بن أبي سفيان قال: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «الخيرُ عادةٌ والشَّرُّ لَجاجةٌ ومن يردِ اللَّهُ بهِ خيراً يفقِّههُ في الدِّينِ» (أخرجه ابن ماجه (221)، وابن حبان (310)، وأصله في الصحيحين)، وهذا الحديث الشريف يصلح تلخيصاً لرسالة رمضان، فالله تعالى يريد لعوائد الخير أن تكون عنوان المجتمع المسلم، وأن تتكرر هذه العوائد الطيبة حتى تتقرر وتصبح هوية مستقرة لأهل الإسلام، ويريد أن يخلّص المجتمع المسلم في الوقت ذاته من عادات السوء وينفيها عنه حتى يتطهر من دنسها.

إحدى وظائف رمضان أنه يرسم لحياتنا نسقاً جديداً ومنظومة عادات جديدة تنفي الخبث وتبني الخير في أعماق النفوس وفي ميادين الحياة على السواء؛ عادات تقوم على التخفف من الدنيا إلا زاداً كزاد المسافر والإقبال على الآخرة بطاقة القلب، عادات تقوم على التسامح والتغافر والتواصل والتواد بين المسلمين.

إن رمضان بمثابة ميلاد جديد للنفس البشرية وميلاد للمجتمع كله، ميلاد يملأ الحياة بعادات الخير ويخليها من عادات الشر؛ حيث ينادي الملك من ملأ الله الأعلى فتسمعه القلوب الصافية وهو يهتف: «يا باغي الخير أقبل»، فالزمان زمانك، ورمضان موعدك، والملائكة شهودك، والريان بابك إلى جنات الخلود.

إحدى وظائف رمضان أنه يرسم منظومة عادات جديدة تنفي الخبث وتبني الخير في أعماق النفوس

الخير عادة يكون في أوله ثقيلاً على النفس، لكن إذا عودتها تعودت حتى يصير طبعاً لها لا تجد فيه حرجاً ولا مشقة، وها أنت تصوم ثلاثين يوماً فتعتاد النفس الصوم حتى لا تكاد تتكلف له مشقة، وكذلك كل خير في حياتك تكلف له مشقة البداية حتى تعتاده فلا تجد له مشقة.

الخير عادة، فلم يولد أحدنا عالماً ولا منفقاً ولا محسناً ولا صواماً ولا قواماً، لكنْ هناك من جاهد نفسه حتى استقامت على هذه الفضائل، وهناك من دساها فبقيت ترعى في مراتع الوخم وفاتتها غنائم الآخرة.

كان ابن عباس يقول: إنا لنجد على أموالنا مثل الذي يجدون غير أننا نصبر! أي: تنازعنا نفوسنا بحبها للمال ألا ننفقه في سبيل الله كما يجد البخلاء من نفوسهم غير أننا نغلبها بالصبر والاحتساب!

الخير عادة، فليس من تدرب وتمرن ومارس وداوم كمن قعد في مكانه وتمنى على الله الأماني! فما جاء رمضان إلا ليعودنا عوائد الخير ويضع أقدامنا على طريق الصلاح، حتى نبدأ في رمضان ونستمر بعده على عوائده الطيبة ليكون رمضان كما أراده الله (هُدًى لِّلنَّاسِ) (البقرة: 185).

موسم الهداية الأكبر

وقد أراد الله عز وجل أن يكون رمضان موعداً للهداية، فأنزل فيه الكتب السماوية على أنبيائه تباعاً، ففي المسند عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان»، قال البيهقي: قال الحليمي رحمه الله: يريد به ليلة خمس وعشرين.

الله تعالى أراد أن يكون رمضان موعداً للهداية فأنزل فيه الكتب السماوية على أنبيائه تباعاً

ولذلك دلالات، منها أن الله عز وجل أراد أن يكون رمضان موسماً للهدايات الكبرى والتغييرات العظمى وانتقال البشرية من حالات التيه والضلال إلى الإيمان والاستقرار، ويستفاد من ذلك أن رمضان هو أنسب الأوقات للتغييرات الكبرى على مستوى النفس والأسرة والمجتمع كما جرت سُنة الله في خلقه ومضت إرادته في عباده.

فبادر في رمضان إلى كل خير عجزت عنه، وإنك بإذن الله بالغه، وبادر إلى كل ما ضعفت عن تركه من هوى أو معصية أو تقصير، فإنك بإذن الله تاركه، استصحب معك في رحلة التغيير الكبرى دافعية شرف الزمان وتاريخه الوضيء من تنزل الرسالات وابتداء الوحي مرة بعد مرة، وإحداث التغييرات العظمى في حياة البشر، وصل حياتك بهذا العالم المشرق، وكن جزءاً من منظومة التغيير الكبير.

وثق أن نفسك في هذا الزمان الفضيل أقرب ما تكون إلى هداها، وأدنى ما تكون من تقواها، وأقدر ما تكون على هواها؛ فلا تضيّع الفرصة، فإنك تعيش أيام الهدى، بل أيام بيّنات الهدى والفرقان.

رمضان والقرآن

وإذا كان مقصود رمضان دلالتك على الهدى ثم تعويدك عليه فإن القرآن هو أصل الهداية ومبتدؤها وخبرها، وثمة علاقة فريدة وتلازم عجيب بين رمضان والقرآن الكريم، تلازم ممتد من نقطة البداية إلى محطة الختام؛ فابتداء كان نزول القرآن -كما كل الكتب السماوية- في رمضان، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185)، وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1)، وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) (الدخان: 3).

وقد نزل القرآن في رمضان مرتين؛ الأولى من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا تمهيداً لنزوله إلى الأرض، ثم كانت الأخرى عندما بدأ تنزل الروح الأمين بالوحي الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، وهما مشهدان فريدان لا مثيل لهما في تاريخ الحياة البشرية.

رمضان موسم للهدايات الكبرى والتغييرات العظمى وانتقال البشرية من التيه والضلال إلى الإيمان

وبعد النزول كان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويراجعه إياه في كل ليلة من رمضان حتى تتم له عرضة كاملة، حتى كان آخر عام من عمره المبارك فعارضه جبريل في رمضان بالقرآن مرتين.

وفي رمضان من كل عام ينزل جبريل وتتنزل ملائكة السماء إلى الأرض لتشهد صلوات المؤمنين وتستمتع بسماع اﻵي المبين؛ (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (القدر: 4)

وفي رمضان تتعلق النفوس المسلمة بالقرآن تعلقاً عظيماً، وتُقبل عليه وتنشط له على نحو لا يتحقق في أي وقت غيره، وهذا الارتباط الوثيق يظل ممتداً إلى يوم القيامة، فيترافق الأنوران؛ رمضان والقرآن، في الشفاعة لصاحبهما، قال صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان» (رواه أحمد).

فلنعش مع القرآن في نهار رمضان وليله؛ تلاوة وتدبراً وفهماً ومراجعة، لعله يروي نفوسنا العطشى إلى وحي ربها، فالقرآن كلما اتصلنا به أصلح في نفوسنا عيوباً خافية لا نراها، وبادية لا نقدر عليها إلا بصحبة القرآن، فلتكن صحبة القرآن على رأس عادات رمضان التي نعتادها فلا نبرحها قط، وكل هداية من هدايات رمضان تحتاج إلى ثبات عليها حتى تصير عبادة معتادة.

ولتكملوا العدة

حين ذكر الله تعالى أحكام الصيام وفقهه وعزائمه ورخصه، أمر عباده أن يُكملوا عدة الصوم حتى مغرب اليوم الأخير، وأن يُكملوا عدة القضاء إن كانوا من ذوي الأعذار.

لنعش مع القرآن في نهار رمضان وليله تلاوة وتدبراً وفهماً لعله يروي نفوسنا العطشى إلى وحي ربها

وتلك عادة يريد الله أن نعتادها ضمن عادات الخير التي يؤسس لها رمضان، يريد الله تعالى من المسلم أن يكون دؤوباً متقناً لعمله -كل عمله- لا ينفك عنه حتى يتمه على الوجه الأكمل، فلا يهمل منه جزءاً ولا يترك منه بعضاً ولا ينقطع نفسه قبل التمام، إن مدرسة رمضان تعلمنا أن يكون صومنا مائة بالمائة، فلا نجرحه برشفة ماء، ولا كسرة خبز، مهما بلغ الجوع أو العطش؛ لنتعلم أن نكمل عدة الصلاة وعدة الذكر وعدة التلاوة وعدة العلم وعدة العمل.

يريد الله تعالى من المسلم أن يكون عمله ديمة، متصاعداً لا متراجعاً، متزايداً لا متناقصاً.

يريد الله تعالى من المسلم أن يكون ذا عزيمة نافذة ماضية، لا تكبو في منتصف الرحلة، ولا تنتكس قبل تمام العدة. 

ودعونا نحاول التنزيل على الواقع قليلاً:

- هل من إكمال عدة الصوم أن تطيع الله نهاراً وتعصيه ليلاً؟!

- هل من إكمال عدة الصوم أن تمسك عن الطعام والشراب وتقع فيما هو أعظم من الغيبة والنميمة وقول الزور وغمط الناس وأكل الحقوق والتقصير في العمل؟!

- هل من إكمال عدة الصوم أن تبدأ رمضان بحماس عظيم لا تكاد تغفل عن الطاعة دقائق معدودات ثم يتراخى ذلك الحماس بالتدريج حتى تضيع ساعات وأيام؟!

- هل من إكمال العدة أن تبني في رمضان ثم تهدم بعد رمضان وتعود حياتك سيرتها الأولى فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!

وفي ميادين الحياة كم من فكرة صالحة لم نحولها إلى عمل، أو تراجعنا عنها قبل أن تكتمل، أو أتقنا وجهاً من العمل وفاتتنا وجوه أخرى فضاعت الثمرة!

لنتعلم من رمضان أن نكمل العدة في شؤوننا كلها قبل أن تكمل عدة الأعمار وتتم مدة اﻵجال

إن من منهج الإسلام العظيم ومن عادات الخير التي يعودنا إياها ضيفنا الجميل: الدأب، والمواصلة، وحسن التدبير، والمضي في الطريق الصحيح إلى نهايته من غير تخاذل ولا تراجع، ولا فتور ولا نفور.

وقد أمرنا الله تعالى أن ندخل في السلم كافة؛ أي: نلتزم الدين كله، وعلمنا الإسلام أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه ابن عمر فقال: «يا عبدالله، لا تكن كفُلان؛ كان يقوم من الليل فتركه»!

لكن كثيرين منا لم ينتبهوا إلى الأمر الإلهي: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ) (البقرة: 185)، ولم يستوعبوا التحذير الرباني: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً) (النحل: 92)، فلا يكاد أحدهم يمضي إلى الله خطوة إلا ويرجعها خطوات، ولا يكاد يفعل حسنة إلا ويحاصرها بسيئات، ولا يكاد يبتدئ عملاً نافعاً لنفسه وغيره إلا وينقطع عنه قبل التمام، يرجع في كل مرة قبل أن يبلغ الغاية أو يحقق الهدف؛ فتضيع الثمرة ويفوت المقصد؛ فلنتعلم من رمضان أن نكمل العدة في شؤوننا كلها قبل أن تكمل عدة الأعمار وتتم مدة اﻵجال.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة