بعيدٌ عن مواطن الخلاف

كان الإمام الشهيد حسن البنا بعيداً كل البعد عن مواطن الخلاف التي تعيق الحركة، وتهدم البناء، وتفسد الود، وتشحن النفوس، وتشغل القلوب.
ولأن الخلاف في الفروع أمر ضروري كان يدرك خطورة الخلاف، لا سيما في البدايات، التي شهدت التأسيس والتكوين، فكان قراره أن يبتعد عن المواطن والأماكن التي يكثر فيها الجدل والخلاف والاختلافات، وتتعالى فيها الأصوات، وتحتد المناقشات، حتى وإن كانت هذه الأماكن هي المساجد التي غدت مرتعاً لمثل هذه الفرق المتنافسة، بل المتخاصمة.
فكان قراره أن يعتزل هذه الفرق كلها، وأن يبتعد عن الحديث إلى الناس في المساجد؛ لأن المسجد وجمهوره هم الذين ما زالوا يذكرون موضوعات الخلاف، التي يثيرونها عند كل مناسبة، فاختار «المقاهي» وجمهورها، منطلقاً لدعوته، التي تأهب لها، وأخذ لذلك العدة المناسبة.
وقد نجحت التجربة، التي قال عنها في المذكرات: «كان لهذا الأسلوب أثره في الجمهور الإسماعيلي، وأخذ الناس يتحدثون ويتساءلون، وأقبلوا إلى هذه المقاهي ينتظرون، وعمل هذا الواعظ عمله في نفوس المستمعين، وبخاصة المواظبين منهم، فأخذوا يفيقون ويفكرون، ثم تدرجوا من ذلك إلى سؤاله عما يجب أن يفعلوا ليقوموا بحق الله عليهم..».
لكن هواة الخلاف، وأحلاس الجدل، وبقايا الفتنة، تسللوا لهذه الدروس كي يبطلوها، ويفسدوها، ويجعلوها ميداناً آخر للجدل والخلاف، يقول: «وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة، روح تحفز وفرقة، ورأيت المستمعين قد تميز بعضهم من بعض، حتى في الأماكن، ولم أكد أبدأ حتى فوجئت بسؤال: ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل؟!
فقلت له: يا أخي، أظنك تريد أن تسألني عن هذه وحدها، ولكنك تريد أن تسألني كذلك في الصلاة والسلام بعد الأذان، وفي قراءة سورة «الكهف» يوم الجمعة، وفي لفظ السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد، وفي أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وأين مقرهما، وفي قراءة القرآن وهل يصل ثوابها إلى الميت أو لا يصل، وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق، وهل هي معصية أو قربة إلى الله.
وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعاً التي كانت مثار فتنة سابقة، وخلاف شديد فيما بينهم، فاستغرب الرجل! وقال: نعم، أريد الجواب على هذا كله.
فقلت له: يا أخي، إني لست بعالم، ولكني رجل مدرس مدني أحفظ بعض الآيات، وبعض الأحاديث النبوية الشريفة، وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب، وأتطوع بتدريسها للناس، فإذا خرجت بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال: لا أدري فقد أفتى، فإذا أعجبك ما أقول، ورأيت فيه خيراً، فاسمع مشكوراً، وإذا أردت التوسع في المعرفة فسل غيري من العلماء والفضلاء المختصين.. وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فأخذ الرجل بهذا القول، ولم يجد جواباً، وأخذت عليه بهذا الأسلوب».
هذا الموقف يذكرنا بالمحطة قبل السابقة التي تناولنا فيها جمال التصرف، وعدم المسارعة في الاتهامات، وسماحة الرد والمعاملة، وبهذا الرد الجميل الذي اتهم نفسه فيه بالقصور، وعدم العلم والمعرفة الكافية، حفظ جهده، وفوت الفرصة على من أراد ضياع العمل وفساده.