23 فبراير 2025

|
عوائق في الطريق (21)

محبة الدنيا والمنافسة فيها

د. أحمد ناجي

23 فبراير 2025

804

لقد خلقنا الله تعالى وفطرنا على حب متاع الدنيا، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران: 14)، فهذا أمر لا غضاضة فيه إذا سار في مساقه الطبيعي. 

إلا أن البعض يقع في عائق من أشد العوائق التي تعيق السير في الطريق إلى الله تعالى، وهو أن تصبح الدنيا بالنسبة له غاية يبذل قصارى جهده في سبيل تحقيقها! 

ولعل هذا هو بعض أسرار التحذير القرآني في قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)

ولكي نحمي أنفسنا من الوقوع في هذا العائق، ينبغي أن نعرف المراد به، وكذلك عواقبه، وأسبابه، ومن ثَم نصل إلى وصف العلاج، لمن وقع فيه. 

تعريف محبة الدنيا والمنافسة فيها

المَحَبَّةُ لغة: الحب، وهو نقيض البغض، وأصل هذه المادة يدل على اللزوم والثبات، واشتقاقه من أحبه: إذا لزمه، تقول: أحببت الشيء فأنا مُحِبٌّ، وهو مُحَبٌّ(1).

و«محبة الدينا والتنافس فيها» عند علماء التربية: لزوم الدنيا والالتصاق بها وجعلها غاية، وميداناً للتنافس، والتباري في تحقيق رغباتها، وأسبابها، وحظوظها(2). 

مظاهرها وموقف الإسلام منها

لمحبة الدنيا والتنافس فيها صور كثيرة نذكر، منها: 

- عدم مراعاة الحلال والحرام في المطاعم، والمشارب، والملابس، والمراكب ونحوها. 

- النفور من طلاب الآخرة، والنيل منهم، وتشويه صورتهم بالكذب عليهم.  

- السخط الدائم، وازدراء نعمة الله تعالى، وعدم الرضا بها، والمخاصمة المستمرة على الدنيا وما فيها من متاع أو عرض زائل. 

- الحديث الدائم عن الدنيا، وسبل اقتناصها، والاشتغال بالسعي في طلبها مع نسيان الآخرة. 

ومحبة الدنيا والتنافس فيها مع نسيان الآخرة قبيح مذموم بنصوص الكتاب والسُّنة، قال تعالى: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: 88)، وقال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه: 131)؛ يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم، ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هي زهرة زائلة، ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك، وقليل من عبادي الشكور(3).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. فأبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» (أخرجه البخاري).

وعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» (أخرجه البخاري). 

وقال الحسن البصري: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره، وقال: والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرَّقت الدنيا أم غرَّبت، ذهبت إلى ذا، أو ذهبت إلى ذا(4). 

عواقب محبة الدنيا والمنافسة فيها

لمحبة الدنيا والمنافسة فيها عواقب ضارة وآثار مهلكة للفرد، والعمل الإسلامي، فعلى مستوى الفرد تؤدي إلى: 

- القلق والاضطراب النفسي: وهذه نتيجة طبيعية لمن جعل الدنيا غايته، وذلك لخوفه من أن تضيع عليه الدنيا، وألا يحصل ما أراد منها، ولعل هذا هو بعض سر قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124)

- إضاعة الحقوق: وذلك أن محبة الدنيا تجر حتماً إلى الظنون الكاذبة وتتبع العورات، والغيبة، والنميمة، بل ربما تصل الأمور إلى حد الكيد والتآمر، وانتهاك الأعراض.

- إهمال أعمال الآخرة، وكراهية الموت: وذلك أن من جعل الدنيا غايته، وبذل جهده في تحقيق ملذاتها سينصرف لا محالة عن أعمال الآخرة، ولن يجد وقتاً لها، ومن ثَم يكره الموت لأنه سيأخذه مما هو مشتغل ومتلذذ به. 

أما على مستوى العمل الإسلامي، فتؤدي إلى:

- الفرقة والتمزق: وذلك أن محبة الدنيا والتنافس فيها تؤدي إلى الخصومات، التي تُنتج العداوة، والكراهية، وحينئذ يُصاب العمل الإسلامي في مقتل. 

- إطالة الطريق: وذلك أن تفرق العاملين للإسلام، يفسح الطريق أمام الأعداء فيتمكنون من الكيد له، ومحاصرته، فتطول الطريق، وينتفش الباطل. 

أسباب محبة الدنيا والمنافسة فيها

للوقوع في محبة الدنيا والتنافس فيها أسباب كثيرة نذكر منها: 

- الغفلة عن أن الدنيا وما فيها تجري بالمقادير: عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (متفق عليه)، فمن ينسى هذه الحقيقة سيقع لا محالة في محبة الدنيا والتنافس فيها.  

- الغفلة عن حقيقة الدنيا: ذلك أن الله تعالى خلق الدنيا لتكون معبراً إلى الآخرة، وجعلها دار امتحان وابتلاء، فمن ركن إليها ونسي آخرته ضيع نفسه، ومن انتبه إليها وأخذ منها ما يسعده في آخرته سلم، ونجا، وغنم.  

– البيئة التي ينشأ فيها الإنسان: ذلك أن المرء إذا تربى في وسط انتشرت فيه محبة الدنيا والتنافس فيها، ولم يكن لديه الحصانة التي تحميه من التأثر بمن حوله أصيب بما أصيبوا به. 

يقول الإمام الغزالي في التحذير من صحبة الحريص على الدنيا المتنافس فيها: وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا، فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا، ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة(5).

- إقبال الدنيا: وقد يكون إقبال الدنيا من بين الأسباب المؤدية إلى محبتها والتنافس فيها؛ ذلك أن الدنيا إذا أقبلت، وغابت معايير وضوابط الحلال والحرام، تبارى الناس فيها، وتنافسوها خشية أن تضيع أو تنتهي كما يتوهمون. 

- طول الأمل والغفلة عن الموت: لا شك أن طول الأمل من الأسباب المؤدية إلى التنافس في الدنيا، خاصة إذا صاحب طول الأمل الغفلة عن الموت، ولعل هذا بعض سر قوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3)

- الغفلة عن عواقب محبة الدنيا والتنافس فيها: فإن من غفل عن الآثار الضارة، والعواقب المهلكة لأي أمر من الأمور أدت به هذه الغفلة إلى الوقوع في هذا الأمر. 

علاج محبة الدنيا والمنافسة فيها

على كل من أراد أن ينقذ نفسه من الوقوع في عائق محبة الدنيا والمنافسة فيها اتباع الخطوات التالية:  

1- اليقين التام بأن حظوظ الدنيا تجري بالمقادير، وأنه مهما أتعب المرء نفسه، وتكالب على الدنيا، وتنافس مع الآخرين في تحصيلها، فإنه لن يُحصِّل إلا ما قُدِّر له.

2- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها ليست غاية، وإنما هي وسيلة، وعليه فلا يصح أن يقف عندها طويلا أو يركن إليها، ويسابق الآخرين في جمعها وتحصيلها. 

3 – البعد عن كل وسط يحرص أصحابه على الدنيا ويتنافسون فيها، ومعايشة من يريدون الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، فلعل ذلك يسهم في اقتلاع الدنيا من القلوب ويجعلها في الأيدي. 

4- أن يخفف من طول الأمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، واضعاً في حسابه أن طول الأمل لا يليق بعبد ضعيف جاهل لا يدري متى الرحيل عن هذه الدار، ولا ما يكون بعد هذا الرحيل. 

5- معايشة سيرة السلف الصالح، وكيف كان تواصيهم فيما بينهم، وأخذهم أنفسهم بمنهج: أن الدنيا أقل وأحقر من أن يفنوا أعمارهم في طلبها والتنافس فيها لذاتها مستخدمين معها قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(6). 

 

 

 

 

 

 

_________________________

(1) تهذيب اللغة للأزهري (4/ 8)، مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 26)، لسان العرب لابن منظور (1/ 290).

(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة، أ.د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي (1/ 256)، بتصرف. 

(3) مختصر ابن كثير، محمد علي الصابوني (2/ 499). 

(4) إحياء علوم الدين (3/ 304)، ص307. 

(5) المرجع السابق (2/ 251). 

(6) آفات على الطريق، أ.د. السيد محمد نوح (4/ 324)، بتصرف.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة