تعليق المساعدات الأمريكية.. تداعيات اقتصادية وفرص للتحرر من التبعية

المساعدات الخارجية تؤدي دوراً مشتركاً للدول المانحة والمتلقية، فعلى صعيد الدول المانحة، تعد إحدى أهم أدواتها لتحقيق ما تصبو إليه من مصالح متوخاة وراء تقديم هذه المساعدات، ومن جانب الدول المتلقية للمساعدات، فهي محاولة للخروج بها من أزمات، قد تكون طارئة في حالة الكوارث والنكبات، أو تكون متوسطة الأجل أو دائمة، لكونها تستخدم في معالجة مشكلات هيكلية، على الصعد الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية أيضاً.
ويأتي الاهتمام بقضية المساعدات من قبل عدة دول متقدمة، بل والصاعدة كذلك، وفي بعض الأحيان من قبل دول نامية، كما هي الحال في تلك المساعدات التي تقدمها الدول النفطية العربية، إلا أن المعونة الأمريكية هي الأكثر شيوعاً على مستوى العالم من حيث الدور والتأثير.
المعونة إحدى الأدوات المهمة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وليست من قبيل العمل الإنساني
وحسب بعض البيانات المنشورة مؤخراً، بلغت ميزانية المساعدات الخارجية الأمريكية، في عام 2022م، نحو 70 مليار دولار، وبما يمثل أقل من 1% من الميزانية الفيدرالية الأمريكية، التي تقدر بنحو 6 تريليونات دولار، وبوجه عام، تمثل المساعدات الأمريكية نحو 29% من إجمالي المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة من قبل 32 دولة مانحة، ضمن لجنة المساعدات، بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
ترمب.. ووقف المساعدات
منذ الإعلان عن نجاح ترمب، وبعد توليه السلطة في 20 يناير 2025م، قدم عدة أجندات صادمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، من بينها تعليق جزء كبير من المساعدات الأمريكية الخارجية، وفي منطقة الشرق الأوسط استثنى المساعدات الدفاعية المقدمة لمصر وللكيان الصهيوني.
وقد جاءت هذه الخطوة في ضوء الهدف المعلن، بتخفيض قيمة العجز بالموازنة العامة الأمريكية، بحيث يتم تخفيض القيمة الإجمالي للموازنة بنحو تريليوني دولار، وبما يعادل نسبة 30% تقريباً، ولكن الخطوة أثارت جدلاً كبيراً في الداخل والخارج.
وقد صرح غير مرة رجل الأعمال إيلون ماسك، المسؤول عن ترشيد الإنفاق في الحكومة الأمريكية، أن ثمة فساداً شاب التصرف في أموال المعونات الخارجية، وكذلك وجود موظفين داخل أروقة وكالة المعونة تعمل ضد الأهداف الأمريكية.
برامج ومؤسسات مجتمع مدني يمكن أن تتوقف لأنها اعتمدت بشكل كامل على تمويل المعونة الأمريكية
ففي الداخل، هناك موظفون مستفيدون من وجودهم في وكالة المعونة، وتخفيض ميزانية الوكالة أو إلغاؤها يعرضهم للبطالة، كما أن الجهات المستفيدة من المعونة الأمريكية سوف تتعطل البرامج المرتبطة بها، سواء كانت مدنية أو عسكرية، ولكن علينا أن نعي أن المعونة بما قدمته منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين خارج أمريكا، لا يعدو أن يخرج عن التوظيف السياسي للمال العام، فالمعونة كانت دائماً إحدى الأدوات المهمة لتنفيذ أغراض وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وليست من قبيل العمل الإنساني أو الخيري.
والجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تلوح أمريكا فيها بتقليص أو إلغاء المعونة الخارجية الخاصة، بها، وإن كانت المرات السابقة كانت قاصرة على دول بعينها، حينما كانت تظهر ملامح خلاف سياسي في بعض القضايا، ورأينا هذا في الحالة المصرية مرات عدة، إلا أنها في كل مرة تعود مرة أخرى، وفي بعض الأحيان تعود بأثر رجعي، ويمكننا القول: إن المعونة الخارجية هي عصا أمريكا وجزرتها.
ومن هنا لا يتوقع أن يستمر قرار تعليق المعونات من قبل حكومة ترمب، وحتى لو استمر لفترة ترمب بشكل كامل، فإن مجيء شخص آخر، أو رئيس ينتمي للحزب الديمقراطي، سوف يعيد وكالة المعونة لعملها مرة أخرى، ليس حباً في تقديم المساعدات، أو معاونة الدول المتلقية، ولكن رغبة في استمرار ما تجنيه أمريكا من ثمار إيجابية.
التداعيات والفرص
على الرغم من صدور وتفعيل قرار تعليق المعونة الأمريكية -باستثناء تلك المعونات الدفاعية لكل من مصر والكيان الصهيوني- فلا يعني ذلك أن باقي المعونة لها وجهها المدني، فهناك آخرون مستفيدون من معونات عسكرية، على رأسهم مثلاً أوكرانيا، التي تعد أكبر المستفيدين من المعونة الأمريكية منذ اندلاع الحرب الروسية عليها في أواخر فبراير 2022م.
شركات أمريكية عديدة ستتضرر لاشتراط غالبية اتفاقيات المعونات أن يتم توريد سلع ذات منشأ أمريكي
ولعل ما شجع ترمب على اتخاذ قراره الخاص بتعليق المعونات الخارجية، أن أجندته تتضمن إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، عبر سعيه للسلام بين الدولتين.
وتتمثل التداعيات المتعلقة بتعليق المعونة الأمريكية، في أضرار تمس الشركات الأمريكية، التي تستفيد من برامج المعونة، حيث تشترط غالبية اتفاقيات المعونات الأمريكية، أن يتم توريد سلع أو خدمات ذات منشأ أمريكي، ومن هناك فجزء لا يستهان به كان يعود مرة أخرى للداخل الأمريكي، وحتى تلك المساعدات العسكرية والدفاعية، غالبها تستفيد منه شركات السلاح الأمريكية، وكذلك الشركات التي تقدم قطع الغيار وأعمال الصيانة الدورية للأسلحة الأمريكية.
أيضاً، في حالة توقف برامج المعونة الخارجية، فسوف يتوقف تدفق سيل هائل من البيانات والمعلومات التي كانت ترسل لأمريكا عبر البرامج الخارجية المختلفة، وهو ما يعني أن المخابرات الأمريكية لن تؤيد استمرار قرار التعليق الذي صدر من ترمب، الذي وضع له سقفاً زمنياً 3 أشهر، والمعلومات تعد حالياً من أغلى الأشياء التي تسعى الدول لامتلاكها والسيطرة عليها.
وعلى صعيد الدول المستفيدة من المعونة الأمريكية، هناك برامج عدة، وبخاصة تلك المرتبطة بمؤسسات المجتمع المدني، التي يمكن أن يصل الأمر بها إلى التوقف التام، لأنها اعتمدت في نشاطها بشكل كامل على تمويل المعونة الأمريكية.
قرار ترمب بتعليق المعونات يعطي الدول المتلقية فرصة الاستقلال على مستوى القرار السياسي والاقتصادي
إلا أن الفرص التي تتاح للدول المتلقية للمعونة كبيرة، وبخاصة للحكومات التي لديها رؤية وسعي جاد في طريق التنمية، بحيث تتحرر من الاعتماد على التمويل الخاصة بالمعونة، والمضي في طريق توفير مصادر تمويل لتلك البرامج التي كانت تمول من المعونة، عبر البدائل الأخرى الخاصة بالموارد الحكومية، أو القطاع الخاص، أو المجتمع الأهلي.
والفرصة التي يوفرها قرار ترمب بتعليق المعونات الخارجية، تعطي الدول المتلقية فرصة الاستقلال على مستوى القرار السياسي والاقتصادي، بحيث يمكنها أن تعارض أو تمتنع عن التبعية لأمريكا في قضايا تخصها، أو تخص الجوانب الإقليمية والدولية، كما أن التصرف الاقتصادي وتحرر تبعيتها لا يقل أهمية عن التحرر السياسي.
وكذلك من الفرص التي يتيحها قرار تعليق المعونات الأمريكية، في الدول المتلقية، مكافحة الفساد الذي شاب العديد من البرامج المنفذة في إطار المعونات، سواء من قبل الحكومات ومسؤوليها، أو من قبل القائمين على مؤسسات المجتمع المدني، فالفساد المالي في تلك البرامج داخل الدول المتلقية، للمعونة تكرر كثيراً، وفي بعض الأحيان استخدمت تلك البرامج في فساد من نوع آخر، يتعلق بالابتزاز السياسي، عبر قضايا الأقليات، أو الطائفية، أو الترويج لثقافات صادمة للمجتمعات من حيث المعتقد أو العادات والتقاليد.