عن فلسطين و«فتح» والمقاومة

المستشار طارق البشري
فلسطين كانت مجتمعًا بشريًا مثل كل المجتمعات التي خلقها الله في العالم، بمعني مجتمع مستقر وضعه، فيه طوائف وطبقات ودولة وفئات مختلفة وأيضا قبائل وأسر وقري وحواضر، وبدخول الصهاينة ومع التشتيت والتهجير والضرب والتقتيل تمزقت البنية الاجتماعية داخل فلسطين، فلم تعد الأسر متجانسة ومترابطة، ولم تعد هناك علاقة بين الطبقات فأصبح المجتمع مهلهلاً، وبذلك أصبح المجتمع ركام يعيش أهله في الملاجئ والمخيمات وتوزعوا على البلاد العربية، وبعضهم ذهب إلى أمريكا وباقي دول العالم.
وبظهور فتح احتاج المجتمع إلى عشرات السنين لكي يتجمع مرة أخري ويظهر ويكون له تكوين سياسي، وكان ذلك أساسا في المهجر، إذ بدأت التركيبات الضخمة للفلسطينيين في المهجر في التجمع مع بعضهم البعض وكان يجب أن يمر وقتٌ طويل حتى يتجمّع المجتمع من جديد ويستقر.
وفي ذلك الوقت كانت منظّمة التحرير الفلسطينيّة تمثّل للفلسطينيّين رمز الوطن، ورمز الانتماء للوطن، أي أنّها كانت بمثابة وطن تصوّري، أنت لست في بيتك أنت في بلد عربي، وبحكم تنقّلها بين عدّة أقطار عربيّة أخذت المنظمة طابع الدولة التي تتخذها مقرًا لها، لم تكن المنظمة مستقلة في سياساتها ولكن من حسن الحظ كان لدينا حكومات وطنية مثل مصر وسوريا، ولم يكن متاح للمنظمة إلا أن تخضع لتوازنات البلاد العربية وتعمل في إطار هذه التوازنات، حتى إنه يمكن قراءة ملامح السياسة للأقطار العربية ذات التوجّه الاستقلالي من خلال المنظمة، ولم يكن للمنظمة إلا ذلك فلم يكن لها استقلال، ولما انهارت هذه الحكومات الوطنية بدأ الاستقلال يقع وبدأت سياسات أخرى تظهر، فوقعت أحداث أيلول الأسود في الأردن.
وقد تنبّه لهذا الأمر ياسر عرفات فكان يخشى على المنظمة من أن تُستوعب في الدولة التي تقيم فيها، ومن هنا كان دائمًا يرفع شعار: منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعندما اختفى التوجه الاستقلالي للبلاد العربية بدأت الحركة الفلسطينيّة تنتقل من الخارج إلى الداخل؛ أي إلى داخل أرض فلسطين المحتلة، وبدأت منظمة التحرير الفلسطينيّة تتحول من "وطن" إلى "تنظيم"؛ لأن الوطن قد صار متحققًا في الأرض المحتلة ذاتها.
وبدأت تظهر قوة الداخل الفلسطيني، وفوجئنا في عام 1987م بظهور أطفال الحجارة، حين قام أطفال لا تزيد أعمارهم على 15 و16 سنة بحمل الحجارة ورميها على «الإسرائيليين».
وهنا بدأ الداخل الفلسطيني يتحرك، وبدأ مركز الحركة الفلسطينية ينتقل من الخارج إلي الداخل ويعمل وهذا ما أدركه ياسر عرفات، ففي البداية كان يخشي من الأردن، وكان يقول أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في مواجهة ألا يتم استيعابها من الأردن، وعندما بدأت حركة الداخل أصبح هذا الشعار في مواجهة الداخل، حتى لا يكون الداخل هو الممثل؛ لأن الداخل أصبح أكثر كفاءة وأكثر قدرة على الاستقلالية من ضغوط الخارج عليه، كما أصبح أكثر قوة على إنقاذ نفسه من التوازنات الخاصة بالحكومات العربية وبالمنطقة العربية وإخراج نفسه منها، وأيضاً يستطيع فرض سياسة خاصة به في حدود إمكانياته، كل ذلك لا يقدر عليه عرفات وهو بالخارج، فأصبحت مشكلته مع الداخل، بعدما كان الخطر أن تقضي عليه دول أخري، أصبح الخطر أن بقضي علية الداخل، وبذلك تتحول المنظمة من ممثل وطن إلي تنظيم، ولذلك بدأ يأخذ سياساته في مواجهة الداخل الفلسطيني.
كارل ماركس له كلمة في سياق النظرية الماركسية، فهو يقول: أن الطبقة البرجوازية تظل وطنية حتى تجد الطبقة العاملة قد أخذت تنمو وتكبر واستشعرت خطرها فلا تبقي الطبقة البرجوازية وطنية.
وإذا استبدلنا طرفي نظرية كارل ماركس بالداخل والخارج سنجد الصورة كالآتي: أن أهل الخارج كانوا وطنيين حتى بدأ أهل الداخل منازعتهم الأمر فبدؤوا في تأكيد علاقتهم بالخارج ضد الداخل وهنا المشكلة.
ونحن نرى أن كل قوي المقاومة، سواء كانت «حماس» أو «الجهاد» أو «الجبهة الشعبية»، تعتمد أساساً على المواطنين داخل فلسطين في الضفة وغزة، وعمومًا هذه المشكلة سنجدها عندما نتحدث في أي موضوع يتعلق بتنظيمات سياسية وانشقاقات عن هذه التنظيمات، فحيثما توجد تنظيمات سياسية بها من يحمل السلاح وبها أيضا السلميين سوف يدب نوع من أنواع الصراع بين الاتجاهين، وحيثما يوجد أهل داخل وأهل خارج سوف يدب الصراع بين هؤلاء وأولئك، وذلك لأن الرؤية مختلفة والأوضاع مختلفة والإمكانيات مختلفة والأدوات التي يستخدمونها أيضًا مختلفة، وبالطبع كل ذلك يؤدي إلي اختلافات في السياسات المقترحة.
__________________________
المصدر: طارق البشري، العدوان على غزة.. الحرب الثانية عشرة، افتتاحية حولية أمتي في العالم، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد (9)، 2009م.