24 فبراير 2025

|

هكذا قرعت المقاومة في غزة أجراس الوعي الجمعي للأمة

جهاد أبو العيس

24 فبراير 2025

40

قرعت صور ومراسم تسليم الأسرى «الإسرائيليين» من قبل المقاومة الفلسطينية في غزة أجراساً ضخمة كانت ساكنة في الوعي الجمعي للأمّة منذ عقود، بما حملت من رمزيات ورسائل وصور أثناء عمليات التسليم.

ولم تختلف أبعاد تلك الرسائل أو تنقطع عن السردية البطولية التي قادها الشعب الفلسطيني ومقاومته طيلة فصول العدوان الفتاك، بل كانت مكملة بلونها وشكلها ومعناها مع فسيفساء البطولة، التي سطرتها المقاومة والشعب الفلسطيني طيلة لحظات وساعات وأيام الحرب.

إن الحلقة القوية التي صاغها المجاهدون في غزة، وحفرت عميقاً في سهوب الوعي الجمعي للأمة العربية والإسلامية، كانت في إعادة صياغة مفهوم النصر والهزيمة، التي بدا فيها الفعل المادي ثانوياً هشاً، ففي الوقت الذي انكبت فيه الأمم والشعوب على الإيمان بالمحسوسات والماديات والنتائج المرئية الرقمية فقط، لوضع معايير المنتصر والمهزوم، وضعت المقاومة الفلسطينية يدها على إعدادات هذا الفهم المجزوء، وقدمت صورة جلية دمرت فيها عقيدة النصر الوهمي، المبني فقط على أعداد ما تهدم من البنيان والعمران والإنسان.

لقد حفرت المقاومة بصنيعها في الوعي الجمعي للأمة أن النصر ليس مرتبطاً بالأدوات المستخدمة على أهميتها.. فالعصا لا تفلق بحراً ولا تخلق ثعباناً ضخماً.. وكذا اليد المريمية الضعيفة لا تهز غصناً غضاً حتى تحرك نخلة.. والكلمات اليونوسية الصامتة القلبية لا تقلب موازين الطبيعة.

لقد خلقت المقاومة الفلسطينية وعياً جديداً في شرايين الأمة، وعياً مرتكزاً على أن النصر متجدّل فقط بالأسباب الخفية المرتبطة باليقين بنصر الله، فإن تحقق ذاك اليقين؛ غدت الأدوات مجرد قشور هشّة سطحيّة.. جيء بها لدواع فنية لإرضاء شروط اجتياز قانون السنن الكونية ليس أكثر.

في قراءة النصر بلغة أرقام الضحايا فقط، كانت أعداد قتلى غزوة مؤتة من الروم أكثر من شهداء المسلمين، ولم يظفر المسلمون بالنصر المطلوب، وقدم الجزائريون على مذبح النصر ما يفوق أعداد الفرنسيين، لكنهم انتصروا، ومثلهم فعل الفيتناميون بانتصارهم على الأمريكيين (نحو 3 ملايين قتيل فيتنامي)، ومثلهم دول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث فاقت أعداد قتلاهم من الجنود والمدنيين، مثيلها لدى دول المحور التي انهزمت، وكذا الحال مع السوفييت عند الهزيمة في أفغانستان، كانت أعداد قتلى الأفغان أكبر بكثير من قتلى السوفييت، لكنهم انتصروا.

ثمة حاجة أيضاً لاستدعاء المقارنة بين أولوية البقاء للإنسان أم للمبدأ، من يفوز منهما عند التناظر؟ هنا كان بإمكان أصحاب الأخدود الذين أبيدوا جميعاً بنظام الحرق البطيء (واحداً واحداً، نساء وأطفالاً وشيوخاً أمام بعضهم) أن يساوموا.. أن يعلنوا كفرهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان.. أن يفتحوا كوة تفاوض (يكفر الرجال مقابل عدم حرق الأطفال والنساء كي يبقوا موحدين ولا يفنوا جميعاً)، لكنهم آثروا الإبادة الجماعية حرقاً أمام بعضهم.. على التنازل عن المبدأ والغاية والفكرة والكرامة.. فوصف الله صنيعهم بالفوز الكبير.. (هل مع الإبادة والحسرة والدم والحرق والهدم والقتل فوز كبير؟!)، نعم؛ لأن الإنسان يفنى ويأتي غيره، لكن المبادئ إن ذهبت؛ ذهب الناس وذهب الدين وذهب العرض والأرض.

كما أحيت مراسم التسليم وصور الصمود أثناء الحرب الطاحنة، بكل تفصيلاتها مارد الوعي الجبار لدى فئة الشباب العربي والمسلم خاصة، واستدعت لهم صوراً من التاريخ العريق، ماثلاً حياً نابضاً أمامهم دون مساحيق، بعد حالة تصحّر جرداء، عاشتها عقول أجيال ترمزت في ذهنيتها بطولات وأبطال سطحيون، ارتحلت معها ومع سلوكياتها وحركاتها وسكناتها في كل وقت وحين.

وغرزت المقاومة وعياً جديداً متجدلاً في النفوس والعقول، أصبحت اليوم لدينا مبادئ تنمو في عقول شباب الأمة، أن الغزاة الذين يواجهون التاريخ والجغرافيا ويحاولون تطويعهما بقوة السلاح ودعم الحلفاء فشلوا.. وأن الأرض لا تتفاعل إلا مع أبنائها والتاريخ لا يكتبه العابرون.

لقد غيرت مشاهد الطوفان والمقاومة والكر والفر، ومشاهد تسليم الأسرى «الإسرائيليين»، وملاحم صمود الغزي تحت الهدم والردم، مفاهيم الأمة في العادات في السلوك في الفهم في المعيشة، في الدين والأخلاق، في فكرة الحياة والموت، في العلاقات الاجتماعية.. في عقيدة الولاء والبراء.. في التفكير الإبداعي.. في المهم والأهم.. في الصبر والتصبر.. في التخطيط للهدف القريب والبعيد.. في النصر والنصرة.. في موقعي من مشروع ومعركة التحرير.. في مكان ومكانة فلسطين، في فكرة الشهادة والارتحال.. في دوافع فكرة البنيان المرصوص.. في مبادئ الجسد الواحد.. في الخذل والتخذيل، في الإنفاق والبذل.. في ترك الجزئيات والانصهار في الكليات.. في تحديد العدو الحقيقي وعدم الانشغال بالعدو الوهمي.. في خوض المعارك الفاصلة وترك المعارك الهامشية.

أكسبتنا غزة ومشاهدها جيلاً كاملاً شارك فصول الملحمة على الهواء مباشرة، عاش بنفسه فسيفساء العودة تحت زناد المقاومة.. كسبنا جيلاً شهد كيف يدوس المقاوم على رقاب العدو.. ويفرض شروطه عليهم وهم صاغرون.

أكسبتنا غزة ومقاومتها ومشاهدها، كيف نكتنز في صدور الأمّة الغضب، كيف نكدّسه ونضغطه ونحشره طبقاً فوق طبق، كيف نوسع له في الشرايين أوردة جديدة، حتى إذا حانت لحظة الانفجار انطلق كالبركان، ليأكل أكباد الظُّلام والمتآمرين والمتخاذلين دون عفو أو مرحمة.

لقد نجحت غزة في معركة التأكيد العقلي الجمعي، أن ضريبة الذّل والاستكانة والخنوع وقبول التبعيّة، أكثر كلفة ونزفاً ووجعاً من ضريبة الكرامة والعزة والأنفة ورفض الركوع، وهي بذلك تؤسس لنظرية جديدة قوامها أن الشعوب والأنظمة التي تستسلم لا تسلم.

نعم.. نجحت غزة في نسج وعي جمعي عالمي، أن الموت أو السجن ليسا عقوبة، بل هما جزء من نضال طويل من أجل الحرية، وبدلاً من أن يكون ذلك تهديدًا، أصبح رمزًا للبطولة والتضحية في نفوس الجماهير.


الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة