كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام».. هل تخلى عنه سيد قطب؟

هناك إشاعة تتردد على ألسنة بعض جنود الحركة الإسلامية في هذه الأيام، وهي أن الإمام الشهيد سيد قطب، وفي أخريات أيامه في هذه الحياة، قد أعلن عن تخليه عن بعض بحوثه ودراساته الإسلامية، التي أصدرها في المرحلة الأولى من حياته الإسلامية، مثل: التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن، والعدالة الاجتماعية في الإسلام، ومعركة الإسلام والرأسمالية.. وغيرها.
وسبب تخليه عنها –كما يقولون– هو أن في بعضها اتجاهات باطلة ناتجة عن بقايا رواسب الجاهلية في فكره، أو أن بعضها قد استنفد أغراضه، بانتهاء الظروف والملابسات التي ألف فيها!
وبما أن كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" قد أدرجه هؤلاء، ضمن القائمة المذكورة، وبما أن الحقيقة على العكس من ذلك تماماً! فسأتناوله هنا من زاويتين:
الأولى: ذكر قصة تأليفه، والجو الذي ألف فيه!
الثانية: إقامة الدليل على أنه تناوله بالتنقيح، وأضاف إليه آخر أفكاره الحركية.
قصة تأليفه
أقبل سيد قطب على القرآن الكريم، يقرأ آياته ويتذوقها لأغراض أدبية وفنية وجمالية، وخرج من هذا بنتائج أدبية وفنية رائعة ممتعة، أثبتها في كتابيه: التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن.
وكان -أثناء دراسته الأدبية للقرآن– قد فوجئ بوجود قواعد ومناهج كاملة فيه، تصلح أساساً لإقامة حياة عادلة، وإنشاء مجتمعات سعيدة، فكان يكتب عنها ملاحظات سريعة، ويتركها جانباً، ليعود إليها بعد الانتهاء من دراساته الأدبية، وما إن فرغ من كتابيه المشار إليهما سابقاً، حتى أقبل على ملاحظاته جامعاً منسقاً، وعلى القرآن الكريم دارساً متعمقاً، فكان كتابه الأول في الفكر الإسلامي "العدالة الاجتماعية في الإسلام".
الجو العام الذي ألّف فيه
اختيار سيد قطب ميدان العدالة الاجتماعية، بهدف بيان منهج القرآن الكريم في إقرارها، وطريقته في تحقيقها؛ وذلك لأن مصر كانت تعيش في مرحلة اجتماعية حرجة، حيث خرجت من الحرب العالمية الثانية محطمة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً، وتزلزلت بنية المجتمع المصري، وظهرت فيه طبقة مستغلة جديدة، هي طبقة أغنياء الحرب والمستغلين اللصوص، بالإضافة إلى الطبقات الأخرى مثل جماعة القصر والإقطاعيين والباشوات وكبار الملاك التي استحوذت على غالبية ثروة البلاد.
وبقيت غالبية الشعب المصري تعيش في فقر مدقع، وتحرم من أبسط حقوقها في الحياة فحدثت هزات اجتماعية وانتشر اللصوص وقطاع الطرق، وكان الشعب يئن تحت وطأة هذا الظلم الاجتماعي.
وفي هذا الجو الموبوء، نشط الشيوعيون في الدعاية لمذهبهم، وراحوا يمنون جماهير العمال والفقراء، والفلاحين المعدمين، بجنتهم الموهومة، فأقبل عليهم المحرومون طمعاً فيما يعدونهم به.
كان سيد قطب يعيش هذه المأساة، وتزعجه المظاهر الاجتماعية التائهة في المجتمع، ويأسى للجماهير المخدوعين الذين استغفلتهم الشيوعية، فراح يبشر بالعدالة الاجتماعية الإسلامية، التي وضع يديه على خطوطها العريضة في القرآن الكريم وأنشأ لهذه الغاية مجلة "الفكر الجديد" التي مولها الحاج محمد حلمي المناوي، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، وصاحب دار الكتاب العربي بمصر.
وكان سيد قطب عنيفاً في نقده للمظاهر الاجتماعية التائهة، وفي كشفه مَنْ وراءها من القصر الملكي والأحزاب والطبقات، وفي حربه للشيوعية ونقدها وتعريتها.
ثم ألَّف كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وبيَّن فيه طبيعة العدالة في الإسلام، والأسس التي أرساها الإسلام عليها، ووسائله في تحقيقها، كما تحدث عن سياسة الحكم وسياسة المال في الإسلام، وعن حق الملكية الفردية وطبيعتها، ووسائل التملك الفردي، وطرق تنمية الملكية، وطرق الإنفاق.. وغير ذلك.
الأثر الذي أحدثه الكتاب
وقد أحدث الكتاب –فور صدوره– آثاراً مختلفة، وأثار ضجة في مختلف الأوساط:
فالأوساط الشيوعية اعتبرته عدوها الرئيس؛ لأنه يفتح عيون الشعب المحروم المظلوم على باب جديد للعدالة الاجتماعية، غير الباب الذي يدعون هم إليه.
والأوساط الحكومية، اعتبرته انتصاراً لخصومهم (الإخوان المسلمون) الذين كانوا في هذا الوقت خلف أسوار المعتقلات، وفي أقبية السجون، لذلك صادرت الحكومة الكتاب بسبب الإهداء، حيث هداه سيد قطب إلى جنود الإسلام، الذين كان يلمحهم بعين خياله قادمين، فظنت أنه يعني شباب الإخوان المسلمين، ولم تفرج عن الكتاب إلا بعد حذف الإهداء.
والأوساط الإسلامية –وبخاصة الإخوان المسلمون– اعتبرته فتحاً جديداً في المكتبة الإسلامية، ونصراً مؤزراً للفكر الإسلامي في صراعه مع الفكر الجاهلي، وإرهاصاً لانضمام صاحبه إلى الحركة الإسلامية!
وقد سلم سيد قطب الكتاب إلى شقيقه محمد ليشرف على طبعه، لأنه كان في طريقه إلى أمريكا، موفداً من وزارة المعارف المصرية!
وصدرت طبعته الأولى في أبريل 1949م، والثانية 1951م.
وقد أعطى سيد قطب الكتاب –وهو في أمريكا– إلى المجلس الأمريكي للدراسات الاجتماعية، ليترجم إلى الإنجليزية حيث ترجمه المستشرق يوحنا (جون. ب. هاردي) الأستاذ بجامعة هالفكس بكندا، وصدرت ترجمته عام 1951م.
وكان أحد رجال علم المخابرات البريطانية في أمريكا، وهو جون هيوورث رون، قد عرض على سيد قطب أن يقوم بترجمته إلى الإنجليزية، مقابل مبلغ عشرة آلاف دولار، ولكن سيد قطب رفض الإغراء، وآثر أن يعطيه مجاناً إلى المجلس الأمريكي للدراسات الاجتماعية.
الطبعة المتداولة حالياً هي الطبعة المنقحة
كان سيد قطب في أخريات أيامه قد وعد بإصدار طبعة منقحة لكتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام يحذف منها الأفكار والاتجاهات الباطلة، التي علقت في فكره من رواسب الجاهلية، التي تبين له خطؤها فيما بعد!
وظن البعض أن الطغيان عجل بإزهاق روحه الطاهرة، قبل تنفيذ ما وعد به، ولذلك فإن الطبعة السادسة من الكتاب، وهي الصادرة من دار إحياء الكتب العربية في مصر عام 1964م، والتي صورت عنها طبعات عديدة بعد استشهاده، آخرها طبعة دار الشروق، وهذه الطبعة في رأيهم ما هي إلا صورة من طبعات الكتاب الأولى، ولذلك دعوا إلى الزهد في الكتاب وعدم الإقبال عليه لأن صاحبه لم يتمكن من تنقيحه قبل استشهاده، ولم يضف إليه آخر آرائه الحركية!
لذلك حرصت على التحقيق من هذه الدعوة، فبذلت جهدي في الحصول على إحدى طبعات الكتاب الصادرة في المرحلة الأولى من حياة سيد قطب الإسلامية، وهي مرحلة ما قبل انضمامه إلى الحركة الإسلامية، فحصلت على الطبعة الثالثة التي نشرتها شركة الطباعة والصحافة للإخوان المسلمين عام 1952م، وأجريت مقارنة بينها وبين طبعة دار الشروق الحالية التي هي صورة عن الطبعة السادسة المنقحة التي أصدرها سيد قطب عام 1946م، ونشرتها دار إحياء الكتب العربية.
وأثبت فيما يلي أهم نقاط الاختلاف بين الطبعتين
1- في الفصل الأول الذي تحدث فيه عن "الدين والمجتمع بين المسيحية والإسلام"، أورد في الطبعة الثالثة نقولات من الإنجيل بلغت حوالي صفحتين، بهدف بيان موقف المسيحيين من المجتمع، وقد حذف هذه النقولات كلها من الطبعة السادسة (قارن بين صفحة 7-8 من الثالثة مع الصفحة 5 من السادسة).
2- أثبت في الفصل الأول أيضا، هوامش في الطبعة السادسة، أشار فيها إلى كتب صدرت له في أوائل الستينيات، مثل الهامش في صفحة (7) الذي أحال فيها على كتاب "المستقبل لهذا الدين"، والهوامش في صفحة (10) الذي أوضح فيه الصلة بين العبادات والمعاملات في الإسلام، وأحال على كتاب "خصاص التصور الإسلامي"، وقد تكررت إشارته هذه في فصول الكتاب الأخرى مثل الهامش في صفحة (21) الذي أشار فيه كتاب "خصاص التصور في الإسلامي"، وأنه قد صدر له كتاب "مقومات التصور الإسلامي" وأنه تحت الطبع.
3- أثناء حديثه عن "سياسة الحكم في الإسلام" كان يضيف فقرات جديدة على الطبعة الثانية في صفحة (97)، حيث أضاف فيها غرض طه حسين المقنع في الإساءة إلى النظام الإسلامي، كذلك الفقرة الثالثة التي أدان فيها مقولة "اشتراكية الإسلام"، وكذلك "ديمقراطية الإسلام"، قارن صفحة (92) من الطبعة الثالثة، مع صفحة 97 من السادسة.
4- كذلك صفحة (98) أضاف فقرة جديدة عن مفهوم الدين والنظام في الإسلام (قارن صفحة 94 من الثالثة مع 98 من السادسة).
5– وفي صفحة (100) أضاف فقرتين، أثبت فيهما قاعدة نظام الحكم في الإسلام، وهي "الحاكمية لله" التي يتميز بها عن كل الأنظمة الجاهلية الأرضية (قارن صفحة 95 من الثالثة مع 100-101 من السادسة).
6– في مبحث "وسائل التملك الفردي"، أورد في الطبعة الثالثة سبعة منها، بينما أورد في السادسة عشر وسائل، مع تعديل في عرض بعضها.
7– أثناء حديثه عن حكمة تحريم الربا أضاف إلى السادسة مقتطفات عن حكمة التحريم، أخذها من تفسير "في ظلال القرآن"، واستغرقت حوالي خمس صفحات (قارن صفحة 122 من الثالثة مع صفحات 121 – 136 من السادسة).
8– في نهاية حديثه عن الزكاة أضاف إلى السادسة فقرات أبان فيها كيف بهتت صورة الزكاة في حس بعض المسلمين الآن (قارن صفحات الثالثة 136 – 137 مع صفحات السادسة 151 – 153).
9– في آخر فصل "سياسة المال" أضاف فقرات لخص فيها القواعد الأساسية للنظام الاقتصادي الإسلامي (الثالثة 144 مع السادسة 161 – 162).
10– أثناء حديثه عن بعض مواقف العلماء مع الحكام الطغاة، أضاف إلى السادسة موقف الإمام النووي مع الظاهر بيبرس في الإنكار عليه بعض تصرفاته (قارن الثالثة 168 مع السادسة 188 – 189).
11– أثناء حديثه عن كيفية بيعة يزيد بن معاوية، حذف من السادسة فقرات طويلة كان قد حلل فيها مواقف بني أمية عموماً وأبي سفيان وابنه معاوية –رضي الله عنهما– على وجه الخصوص، وقد بلغت المحذوفات حوالي أربع صفحات (قارن الثالثة (182 – 186) مع السادسة صفحة 205).
12– في فصل "حاضر الإسلام ومستقبله" عدل الصفحات الأولى منه، حيث صاغها على هدي آرائه الحركية الجديدة حول معنى الدين والإسلام والحاكمية (قارن الثالثة 225 – 222 مع السادسة 244 – 248).
13– كذلك أورد في هذا الفصل فصلاً كاملاً من فصول "معالم في الطريق" الذي طبع عام 1964، وهو فصل "التصور الإسلامي والثقافة" (قارن الثالثة 248 – 254 مع السادسة 266 – 278 وانظر كذلك: "معالم في الطريق" 165 – 182 طبعة دار دمشق).
14– وبعدما انتهى من إثبات فصل "التصور الإسلامي والثقافة" أتبعه مباشرة بمقالة "منهج الأدب"، وهي المقالة المشهورة في كتاب "في التاريخ فكرة ومنهاج" (انظر: الثالثة 255، وقارنها مع السادسة 178 – 282، وانظر أيضاً: "في التاريخ فكرة ومنهاج" 11 -21).
15– وأثناء حديثه عن التصور الإسلامي والتاريخ، أورد في السادسة معظم مقالة "في التاريخ فكرة ومنهاج"، وهي المقالة الرئيسة في الكتاب الذي يحمل نفس العنوان الذي جمع بعد استشهاده (قارن السادسة 283 289 مع "في التاريخ فكرة ومنهاج" 27 – 55).
16– وأخيراً خاتمة الكتاب في السادسة تختلف اختلافاً واضحاً عنها في الثالثة (قارن الثالثة 271 – 273 مع السادسة 292 – 293).
هذه أهم الفروق بين الطبعتين، وهناك كثير منها لم نذكره، وبها يظهر لنا أن الطبعة المتداولة حالياً هي الطبعة المعتمدة لدى سيد، التي كان ينوي إصدارها، والتي أشرف على تعديلها وتنقيحها، وضم إليها آخر آرائه الحركية.
ومن هذه العروض تبين لنا خطأ إطلاق الأحكام جزافاً، وخطورة ذلك الإطلاق على الفكر والثقافة، والدعوة والحركة، ومخالفتها للموضوعية والمنهجية في البحث العلمي، فلو عقد أصحاب الإشاعة مقارنة سريعة بين الطبعتين، لما أطلقوا هذه المقولة الظالمة التي رددها كثير من الدعاة، والتي أرادوا منها لهذا الكتاب القيم أن يلقى بعيداً في عالم النسيان!
والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_______________________________
العدد (532)، 7 شعبان 4001هـ/ 9 يونيو 1981م، ص21-23.