مقاصد السياسة الشرعية وغاياتها

تقرر في قواعد الفقه الإسلامي أن «الأمور بمقاصدها»، ويدخل في ذلك كل تصرفات المكلفين، من عبادة ومعاملات، وجرياً على وفق هذه القاعدة الفقهية، يمكن أن نذكر في هذا الصدد ضابطاً فقهياً يندرج تحت هذ القاعدة الفقهية الكلية، فنقول: «إن السياسيات بمصالحها»؛ لأن جميع تصرفات الإمام في لرعية منوطة بالمصلحة.
فما حققت من السياسات مصلحة للأمة، أو دفعت عنها مفسدة؛ فهي داخلة في إطار السياسة الشرعية، وما لم تحقق منها مصلحة للأمة أو لم تدفع عنها مفسدة؛ فليست من السياسة الشرعية في شيء، وسواء في ذلك المصالح الدنيوية العاجلة، والمصالح الأخروية العاجلة.
والسياسة
الشرعية أفضل السياسات وأعدلها على الإطلاق، لما تحقق من المقاصد العليا والمنافع
الكبرى، التي تعود على الراعي والرعية، وتنفعهم في إقامة دينهم، وسياسة دنياهم،
وإصلاح عاجلهم، وإسعاد آجلهم، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
معنى
مقاصد السياسة الشرعية:
رغم حديث العلماء المستفيض عن مقاصد السياسة الشرعية في كتبهم ومصنفاتهم، فإننا لم نقف على تعريف جامع مانع لمقاصد السياسة الشرعية، وبعد التأمل في مجموع ما ذكروه من معانٍ خلصنا إلى القول بأنها: «الحكم والغايات والأسرار التي من أجلها شرعت الأحكام المتعلقة بتدبير الشأن العام للأمة»، أو هي: «المصالح والمنافع الناتجة عن التشريعات الإسلامية المتعلقة بالإمامة والولاية».
السياسة الشرعية أفضل السياسات وأعدلها لما
تحقق من المقاصد العليا والمنافع الكبرى
فمن أمعن النظر
في الأحكام المتعلقة بالسياسة وتدبير الشؤون العامة للأمة يجد أن للشارع الحكيم
مقاصد وغايات وحكماً وأسراراً يريد تحققها من خلال تلك التشريعات، وهي تلك المقاصد
الكلية التي نص عليها في بعض الأدلة، أو استنبطها العلماء من النصوص الشرعية، وفق
المنهج الأصولي في الكشف عن المقاصد والغايات الشرعية.
اقرأ أيضا: تطور علم السياسة الشرعية في ظل الدولة القومية
من أهم مقاصد السياسة الشرعية:
1- مقصد
إقامة الدين:
هو بث عقيدة
التوحيد بين الناس، وإظهار شعائر الإسلام والعمل بشرائعه فيهم، وحفظه من التغيير
والتحريف والتبديل، قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج).
ومقصد إقامة
الدين وحفظه من أهم الفروق بين الدولة الإسلامية القائمة على الإيمان بالله تعالى
وتوحيده، والدولة العلمانية القائمة على مبدأ الفصل بين الدين والسياسة، ونبذ
أحكام الشريعة، يقول جمال الدين عطية: «فلا ترى الشريعة فصل الدين والأخلاق،
واعتباره أمراً يخص الفرد ولا دخل للمجتمع فيه، كما ترى النظم العلمانية.. أما
الشريعة فترى حفظ دين عموم الأمة من أهم مقاصدها(1).
2- مقصد
تدبير شؤون الأمة العامة:
ومن مقاصد
السياسة الشرعية تدبير شؤون الأمة العامة، وتنظيم
تراتيبها الإدارية، وتصريف قضاياها الحكومية، وتحديد علاقاتها الدولية، والأصل
في هذا المقصد ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانت
بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي»(2)، قال النووي: أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة
بالرعية، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه(3).
وأهم الشؤون
العامة التي يدبرها الإمام التربية والتعليم، والصحة، والاقتصاد، وتحقيق الأمن
الغذائي، والفصل بين الخصومات، ورد الحقوق إلى أهلها، وحفظ بيضة الأمة، والدفاع عن
مقدراتها.
3- مقصد
تأدية الأمانات إلى أهلها:
جماع مصالح
الناس التي يتعلق بها نظر الإمام أمران، وهما: الولايات والأموال، وذلك لأن النفوس
مجبولة على حبهما والتنافس عليهما، وقد يظلم الناس بعضهم بعضاً بسببهما، وهي في
الجملة أمانات في يد الإمام وليس ملكاً له، وقد أوجب الشارع الحكيم على الأئمة
والولاة تأديتهما إلى أهلهما المستحقين، فقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً
بَصِيراً) (النساء: 58)، قال ابن جرير: هو خطاب من الله إلى ولاة أمور المسلمين
بأداء الأمانة إلى من ولوا في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل
بينهم في القضية، والقسم بينهم بالسوية(4).
ومن السياسة
الشرعية والولاية الصالحة تأدية الأمانات إلى أهلها، وإيصال الحقوق إلى أصحابها،
وتسوية الفرص والإمكانات أمام الجميع، لا فرق بين قريب وبعيد، وبين غني وفقير،
وبين موال ومعارض.
اقرأ أيضاً: 4 أخطار لغياب السياسة الشرعية
4- مقصد
حفظ جماعة المسلمين:
من مقاصد
السياسة الشرعية ومطالبها الضرورية حفظ جماعة المسلمين، وتجنيب كيانهم من التفرق
والتصدع، وإبقاؤها قوية متماسكة مترابطة، ومن الأدلة على هذا المقصد الجليل قوله
تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 115).
من مقاصد السياسة الشرعية:
- بث عقيدة التوحيد وإظهار شعائر الإسلام
- تدبير شؤون الأمة وتنظيم تراتيبها الإدارية
- حفظ المسلمين وتجنيب كيانهم من التفرق
- اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن المسلمين
وما رواه ابن
عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: «يا أيها الناس، إني قمت فيكم
كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة،
فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة،
من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن»(5).
5- مقصد
حماية بيضة الأمة وإرهاب أعدائها:
من أهم مقاصد
السياسة الشرعية حماية بيضة الأمة وإرهاب أعدائها، واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع
عن حياض المسلمين، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39)(6)، وقال تعالى آمراً المسلمين بأخذ الحيطة من أعداء
الإسلام المتربصين بالأمة: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(الأنفال: 60).
قال ابن عاشور: فمن
مقاصد الإسلام أن تكون الأمة الإسلامية مرهوبة الجانب محترمة، منظور إليها في أعين
الأمم الأخرى نظرة المهابة والوقار، يخشون بأسها ليردعهم عن مناوشتهم إياها وتكدير
صفو الأمن فيها(7).
تلكم أهم مقاصد
السياسة الشرعية وغاياتها الكبرى سيقت على عجالة وبما يناسب المقام، وخلاصة القول أن
كل ما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة عن الأمة من تصرفات الإمام فهو مقصود شرعاً، كما
نص عليه الإمام ابن قيم الجوزية؛ فحيث ما كانت المصلحة فثم شرع الله.
_____________________
(1) نحو تفعيل
مقاصد الشريعة، لجمال الدين عطية، ص 159، الناشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي،
1424هـ.
(2) متفق عليه:
صحيح البخاري (4/ 169)، صحيح مسلم (3/ 1471).
(3) المنهاج في
شرح صحيح مسلم بن حجاج، تأليف يحيى بن شرف النووي (12/ 231)، الناشر: دار إحياء
التراث العربي، بيروت الطبعة الثانية، 1392هـ.
(4) جامع البيان
(7/ 168).
(5) سنن الترمذي
(4/ 35).
(6) السنن
الكبرى، للنسائي (10/ 191).
(7) أصول النظام
الاجتماعي في الإسلام، ص 216.