23 فبراير 2025

|

نظرة غربية حول الاستبداد

مصطفى عاشور

15 يناير 2025

2595

مقاومة الاستبداد واجبة لكل راغب في الحرية والكرامة، وما أضر الدين والإنسان والبلاد إلا الطغيان، وتظل مقاومة الاستبداد ضرورة، تحقق نجاحها ليس من خلال تبنى إستراتيجية الضربة القاضية، ولكن من اعتماد النجاحات الصغيرة والمتراكمة لتحقيق الفوز الكبير.

المصير واحد

إن أقوى الطغاة على وجه الأرض محكوم عليهم بالعيش في خوف دائم، فهم قادرون على جعل أعدائهم يختفون بنقرة من أصابعهم، وهم وأسرهم وأتباعهم قادرون على السيطرة على بلدان بأكملها من داخل قصورهم الفاخرة، ولكنهم مضطرون أيضاً إلى قضاء كل ساعة من ساعات يقظتهم في خوف من فقدان كل شيء، ومهما بلغت قوتهم، فإنهم لا يستطيعون دفع ثمن هذا الخوف أو إصدار الأوامر بزواله، وإذا أقدم هؤلاء الطغاة على خطوة خاطئة واحدة، فسوف يسقطون حتماً.

هذا ما ذكره عالم السياسة الألماني مارسيل ديرسوس، في كتابه «كيف يسقط الطغاة»(1)، الصادر عام 2024م، فقد سعى ديرسوس إلى تقويض قناعة الكثيرين بأن الأنظمة الدكتاتورية تشكل معاقل للاستقرار، وأن الطغاة يحافظون بسهولة على السلطة بقبضتهم الحديدية، مؤكداً أن طول عمر الطغاة في أماكنهم في السلطة يخفي هشاشة كبيرة ودائمة، فكلما طالت السنوات التي يقضيها الطاغية في الحكم؛ بات أكثر ضعفاً، ومع الضعف يزداد العنف، ومع العنف ينحصر المستبد حول مجموعة قليلة جداً من المستفيدين من بقائه، وهؤلاء يبتزونه، وهكذا يظهر درس التاريخ، الذي لم يتعلم منه أحد، حتى تأتي نهاية الطاغية.

يؤكد ديرسوس أن وصول الدكتاتور إلى تلك المرحلة الحرجة فإن كل شيء قد ينهار في لحظة، لينتهي المطاف بالمستبد إما في القبر أو المنفى أو السجن.

وعلى الجانب الآخر نجد عالمة السياسة الأمريكية إيريكا تشينويث، التي لها أبحاث ودراسات مهمة حول الثورات والانتفاضات العالمية ضد الدكتاتورية، وبرأيها أن المقاومة المدنية اللاعنيفة أكثر نجاحاً في إسقاط المستبدين، وأنها الأكثر في تهيئة الظروف لقيام أنظمة ديمقراطية بعد نجاح الثورة.

درست تشينويث وفريقها البحثي أكثر من 200 ثورة عنيفة(2)، وأكثر من 100 ثورة غير عنيفة، والمفاجأة أن البيانات أظهرت أن 26% من الثورات العنيفة كانت ناجحة، في حين نجحت 53% من الانتفاضات والحملات غير العنيفة.

وقد سعت تشينويث لوضع ما يشبه النظرية أو القاعدة لقدرة الاحتجاجات الجماهيرية في لحظة ما على إسقاط الأنظمة الدكتاتورية، وأسمت تلك «قاعدة 3.5%»، ومعناها أن الاحتجاجات الجماهيرية التي تشمل 3.5% فقط من السكان يمكن أن تكون كافية لإسقاط النظام، وقالت: لم تفشل أي ثورة بمجرد حشد 3.5% من السكان في ذروة المقاومة، سواء من خلال الاحتجاجات الجماهيرية أو أشكال أخرى من عدم التعاون.

وفي العام 2020م، كتبت مقالاً بعنوان «مستقبل المقاومة اللاعنفية»، وذكرت أن العام 2019م اندلعت احتجاجات وإضرابات ومظاهرات واسعة النطاق في عشرات البلدان على نطاق غير مسبوق، في السودان والجزائر والعراق ولبنان وبورتوريكو وبوليفيا، تقول تشينويث: المقاومة اللاعنفية هي أسلوب من أساليب النضال حيث يواجه الناس العزل عدوًا باستخدام العمل الجماعي، لبناء القوة وتحقيق الأهداف السياسية، بعدما أصبحت المقاومة اللاعنفية ركيزة أساسية للعمل السياسي في جميع أنحاء العالم.

في تلك المقالة المهمة أشارت إلى إحصاء مهم في العمل ضد الاستبداد والاستعمار على السواء، فخلال الفترة من عام 1900 حتى عام 2019م؛ أي خلال 110 أعوام شهد العالم ما يقرب من 628 ثورة وحركة جماهيرية وعنيفة للانفصال أو طرد الاحتلال العسكري الأجنبي أو القوة الاستعمارية، كان منها 303 حركات مسلحة عنيفة، أما الباقي وهو 325 فقد اعتمدت بشكل كبير على المقاومة المدنية اللاعنفية.

وأشارت إلى أنه خلال الأعوام من 2010 إلى 2019م شهدت انطلاق ما لا يقل عن 96 حملة لا عنفية، وتعلل الزيادة في اعتماد الوسائل اللاعنفية في مواجهة الاستبداد إلى أن المزيد من الناس في مختلف أنحاء العالم أصبحوا يرون في المقاومة اللاعنفية وسيلة مشروعة وناجحة لإحداث التغيير، إضافة إلى العامل التكنولوجي، وهو ما مكن من انتقال التجارب النضالية وخبراتها، ورأت بأن العنف آخذ في الجفاف، لكن من أهم نتائج هذا التحول هو زيادة الاهتمام الشعبي بالمقاومة المدنية كوسيلة للدفاع عن حقوق الإنسان، والأهم هو أن الناس أصبح لديهم دوافع جديدة للمقاومة؛ وهو ما يعني زيادة أعداد القوى الرافضة للاستبداد والدكتاتورية.

أما ديرسوس، فلفتت الانتباه إلى نقطة مهمة تساهم في تشكيل الوعي ضد المستبد، وهو أن الحكام المستبدين غير عقلانيين، وأن المسؤولية عن إشعال الثورات والغضب ضدهم تقع على عاتقهم، من خلال إنفاقهم الباذخ على تماثيلهم وصورهم التي تغرق البلاد؛ لذا كان الغضب دوماً يصب حممه على تلك الصورة والتمثال، فالوجود الطاغي للصورة والتمثال يذكر دائماً بالطغيان.

معضلة المستبد

إن فهم كيف يعيش الطغاة يساهم في إزاحتهم، وفهم حقيقة مخاوفهم يساهم في محاصرتهم وإبعادهم عن السلطة، ونصب الفخ لاصطيادهم، إذ يعيش هؤلاء بين المقايضة والمؤامرة، فهو يقايض على بقائه في السلطة بأي شي وبكل شيء، فلا سقف لمقايضته، إلا البقاء في السلطة، أما المؤامرة فهو يشعر أن دوماً هناك مؤامرة تُحاك ضده حتى من أقرب مقربيه ومن الجند الذي يحميه؛ لذا تضيق الدائرة التي يعتمد عليها في إدارة الدولة، ويغدق على أعوانه الأموال والمنافع، فيتحول هؤلاء إلى ابتزازه.

من أهم وسائل مواجهة المستبد، أن تتم مواجهة أكاذيبه وإنجازاته الوهمية، خاصة أن الكثير من المستبدين يرون أنهم يضحون بأنفسهم من أجل الجماهير، يذكر الكاتب الأيرلندي سي إس لويس أن من بين كل أشكال الطغيان، قد يكون الطغيان الذي يُمارس بصدق من أجل مصلحة ضحاياه هو الأكثر قمعًا، فأولئك الذين يعذبوننا من أجل مصلحتنا سوف يعذبوننا بلا نهاية لأنهم يفعلون ذلك بموافقة ضمائرهم، وبالتالي فإن عدم ابتلاع هذا الطعم، وكشف زيفه أمام الجماهير يوسع من القطاعات الجماهيرية المعارضة للمستبد، فتضعف قدرة على سحق معارضيه.

في عام 2001م، أصدر روجر بيترسون كتابه «المقاومة والتمرد.. دروس من أوروبا الشرقية»(3)، وقد سعى بيترسون إلى الإجابة عن سؤال: كيف ينخرط الناس العاديون في المقاومة والتمرد ضد الأنظمة القوية؟ ومما ذكره أن التحدي الأكبر هو التحول البطيء للجزء الأكبر من السكان من مرحلة الحياد مع النظام إلى مرحلة مقاومته مقاومة واسعة وغير مسلحة، من خلال الكتابة على الجدران، والأغاني القومية، وتوزيع أو قبول الأدبيات المعادية للنظام، والمشاركة في المظاهرات العفوية، وكلما فشل النظام في معالجة هذه المشكلة؛ زاد عدد الأشخاص الذين سينضمون إليه حتى تصل الأمور إلى نقطة تحول في المقاومة المجتمعية أو التمرد المنظم.

وقد يُنهي هذا التحول ما أسماه بيترسون تلك الصفقة بين الجماهير والنظام الاستبدادي، القائمة على السماح للناس بالحصول على بعض المزايا في التعليم والعمل والخدمات مقابل التنازل عن جزء الحرية الكرامة، حيث كان شعار تلك المرحل «دعونا نتحدث عن الخبز لا السياسة» ليتحول الشعار إلى «الحرية والكرامة والديمقراطية».

___________________________

(1) How Tyrants Fall: And How Nations Survive.

(2) صاغت ذلك في كتاب لماذا تنجح المقاومة المدنية صدر عام 2011، بعنوان Why Civil Resistance Works.

(3) Resistance and Rebellion: Lessons from Eastern Europe.

 


كلمات دلاليه

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة