23 فبراير 2025

|

وهم القومية اليهودية.. إنهم لا شك زائلون

رأفت صلاح الدين (*)

 

الكلام عن زوال هذا الكيان ليس من فراغ، فالأساس الذي قامت عليه هذه الدولة باطل ويحمل بين طياته عوامل هدمه.

أساس "الفكرة اليهودية" منذ قرون قامت على عقيدة باطلة وهي "القومية اليهودية" حيث يزعمون أن اليهودية قومية وعرق قبل أن تكون دينا، بمعنى أن كل اليهود ينتمون لعرق واحد، لذا لا يقبلون أي شخص يتهود، ولا يعتبرون أي شخص ترك اليهودية أنه لم يعد يهوديا، وكذلك هذا سبب اعتبارهم أن من تجري في عروقه دماء يهودية فهو يهودي ولو من ناحية الأم فقط.

نشأت هذه الفكرة في أوروبا في موجهة القومية الأوروبية الأنجلوسكسونيَّة التي تتألف من القبائل الجرمانية والمجموعات البريطانية الأصلية التي تبنت العديد من جوانب الثقافة واللغوية المشتركة.

ثم انتقلت فكرة "القومية اليهودية" معهم إلى العالم الجديد، أمريكا، الذي يزعمون أنهم شاركوا كريستوفر كولومبوس في اكتشافه، وأنهم من موّل هذه الحملة، لذا تعمدوا المنّ على الشعب الأمريكي دائما أنهم أصحاب الفضل عليهم، كما انتقل معهم الصراع مع الأنجلوسكسونية القومية الغالبة في أمريكا، واعتبروها عدوهم اللدود، لأنها تسلبهم حلمهم بالتفرد والتميز والاحتكار والاستغلال..

وظلوا في صراع لمدة عقود معها حتى استطاعوا تركيعها واستغلالها وتطويعها لخدمة مشروعهم الكبير.

ثم كانت خطوتهم التالية وهي تحويل هذه الفكرة إلى واقع عملي، ترتب عليها سعيهم الحثيث ليكون لهم وطن يتجمعون فيه، وبما أنها فكرة باطلة من الأساس فاليهود من أعراق وخلفيات كثيرة منهم العربي، والآري، والأيبيري، والأنجلو ساكسوني، والفارسي، والهندي، والافريقي وغيرهم..

كذلك خلفياتهم وفرقهم الدينية مختلفة متضادة بينهم صراعات دينية، وآباؤهم المؤسسون يعلمون ذلك، ويعلمون صعوبة تجمعهم، لذا كانت خطوة وخطورة هرتزل أن طوّر هذه الفكرة القومية وربطها بالدين ليدعو إلى قومية ووطن في مكان مقدس بالنسبة لهم، وهي "أرض الميعاد"، فلسطين، ليضمنوا اجتماع كل اليهود على هذه القضية، ودعا إلى ذلك ووجدت فكرته صدودا كبيرا في البداية، لذا أضافوا لها عوامل أخرى ليضمنوا ولاءات أكثر، ومن هذه العوامل المال، والسلطة، والهيمنة، فأعدوا مشروعات اقتصادية عملاقة يعدون بها اليهود في أرض الميعاد، ومعلوم حرص اليهود على كنز الأموال وحبهم للسيطرة والاحتكار والابتزاز، فضموا في فكرة وطنهم كل العوامل الجاذبة لليهود، القومية والدين والمال والسلطة، كما ضموا لها عنصرا آخرا هو الإرهاب حيث أجبروا من لم يقتنع بكل ما سبق على القبول بفكرة الوطن، فألّبوا حكومات وأنظمة على إخوانهم في الدين ليتم طردهم من بلدانهم الأصلية، فلا يجدون مكانا لهم غير أرض الميعاد، والحقيقة أن اليهود كانوا بارعين في التخطيط، والصبر، وطول النفس.

فجمعوا هذه المشارب والقوميات والعرقيات والمذاهب الدينية حتى من غير المتدينين من علمانيين وملحدين، بل منهم الليبراليين والاشتراكيين والبلاشفة وغيرهم، وجمعوهم وأرادوا صهرهم في بوتقة واحدة هي "القومية اليهودية".

ظلوا على مدى عقود يدعمون هذه الفكرة ويكرسونها حتى يضمنوا نجاحها قبل أن ينتقلوا إلى فلسطين.

ولأنها فكرة باطلة من الأساس ولا تحمل أي قدر من الحقيقة تحولت إلى أكبر عامل من عوامل فشلهم وزوالهم، فظهرت في المحتمع اليهودي بعد سيطرته على أرض فلسطين الفروقات العرقية والقومية والدينية والفكرية والأيديولوجية.

فالمجتمع اليهودي مقسم إلى طبقات يعلو بعضها على بعض ويحتقر بعضها بعضا، فالاشكناز وهم اليهود من خلفيات غربية يتكبرون على باقي الخلفيات، مثل السفارديم وهم اليهود من أصول أيبيرية أندلسية، وهؤلاء يتعالون ويحتقرون اليهود المزراحيون وهم اليهود الشرقيون، وكلهم يحتقرون اليهود الأفارقة.

والأشكناز من أصول أمريكية وأوروبية بينهم وبين اليهود الأشكناز من أصول روسية وبولنديون تنافس وخلافات وصراعات وأحقاد. كما أنهم طوائف دينية كثيرة متنافسة ومتناحرة، فمنهم:

- الأرثوذكس: يعتقدون بكل من التوراة والتلمود، وأن الله أوحى بذلك كله إلى موسى مباشرة في جبل سيناء، ومن طوائفها الحريديم.

- الحريديم: هم جماعة من اليهود المتدينين المتشددين الذين يطبقون الطقوس الدينية وفق الشريعة اليهودية، كما يحاول الحريديم تطبيق شريعة التوراة في الكيان المحتل.

- الإصلاحيون: لا يؤمنون إلا بالتوراة فقط، فينكرون التلمود، ويفسرون التوراة تفسيرا علمانيا، ويعتقدون أن التعاليم الأخلاقية والسلوكية أهم أجزاء اليهودية، ولا يولون أهمية العبادات التوراتية، حتى أنهم نبذوا كثيرًا من الطقوس الدينية؛ لذا لا تعتبرهم باقي الطوائف اليهودية أنهم يهودًا.

- المحافظون: أو اليهودية  (التراثية) نشأت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ورغم إيمانهم بالتوراة والتلمود، إلا أنهم ذهبوا إلى وجوب تفسير النصوص المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة والثقافة المعاصرة، وهم كاليهود الإصلاحيين لم يهتموا كثيرًا بالطقوس، ولكنهم يمارسون العبادات.

- الربانيون: أو "اليهودية الحاخامية"، أو "اليهودية التلمودية"، تؤمن بتلقي النبي موسى (عليه السلام) في جبل سيناء  "التوراة المكتوبة" من الله، ومعها تفسير شفوي يعرف باسم "التوراة الشفوية"، والتي نقلها موسى إلى الشعب اليهودي.

- القرائون: يختلف اليهود القرائون عن اليهود الربانيين في أنهم لا يقبلون بتفاسير الحاخامات والصلاحيات المطلقه للمقرا "التوراة الشفهية"، وهم يلتزمون فقط بأقوال المقرا المفسرة فقط "التوراة المكتوبة".

- السامريون: من أصغر وأقدم الطوائف الدينية في العالم في عصرنا الحاضر. عاشت وما زالت تعيش على أرض فلسطين، وهم يعتبرون أنفسهم السلالة الحقيقية لبني إسرائيل القدماء الأصليين أتباع سيدنا موسى عليه السلام اللذين حافظوا على نقاءهم العرقي، وأنهم شعب الله المختار وليس اليهود. وأن توراتهم المكونة من أسفار موسي الخمسة والتي أنزلها الله علي موسي في جبل سيناء هي الصحيحة، بينما توراة اليهود محرفة.

توجد بين كل هذه الطوائف خلافات كثيرة وبينهم تنافس وصراعات، بل وحروب أيضا عبر التاريخ، ونشاهد طوائف دينية منهم ترفض قيام "إسرائيل"، وتعتبرها رجسا، وضد مشيئة الإله .. مثل حركة "ناطوري كارتا" وهي حركة حريدية تم تأسيسها في سنة 1935، تعارض الصهيونية ودولة إسرائيل وتنادي بخلع أو إنهاء سلمي للكيان الإسرائيلي، وإعادة الأرض للفلسطينيين، فهم يعتقدون أن اليهود بسبب خطاياهم ممنعون من إقامة دولة خاصة بهم، حتى مجيء المسيح، وعليهم البقاء في الشتات حتي مجيئه، وأن قيام دولة إسرائيل فيه مخالفة لإرادة الله، فمحكوم عليها بالزوال، يتمركز أتباع هذه الجماعة في القدس ولندن ونيويورك.

هذه هي طوائف اليهود المتدينين أو كما يطلق عليهم اليمينيين، وهم يحتقرون العلمانيين ويكفرونهم ويلعنونهم، وبينهم صراعات واحتكاكات باستمرار.

ومن ناحية أخرى فالمجتمع اليهودي مقسم إلى حركات وكيانات مثل: الصهيونية المعروفة، وحركة ناطوري كارتا، وحركة الكبالا أو (القبالة) وهي عبارة عن مجموعة من المعتقدات التراثية اليهودية والفلسفية المعقدة التي تفرض دراسة التلمود على المتزوجين فقط.

- حركة الحاسيديم: وهي حركة اجتماعية أشبه بالصوفية، من حيث تأسيس مزارات حسيدية لهم.

- الغنوصية: مثل الاعتقادات الفارسية القديمة التي تقول بوجود إلهين، إله النور والخير من جهة، وإله الظلام والشر من جهة أخرى.

- الحركة التنويرية اليهودية: أو هسكلة، هي حركة تنوير يهودية، بدأت الحركة بين يهود أوروبا في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين، وكانت تدعو  البداية لتبني قيم عصر التنوير، والاندماج في المجتمع الأوروبي، وانتهى بها المطاف إلى إنشاء أول حركة سياسية يهودية من أجل التحرر اليهودي.

وهكذا فالمجتمع منقسم بين طوائف دينية وعرقية وفكرية وسياسية، تظهر فيه بشدة هذه الفروقات، في صورة صراعات عنصرية بين اليهود أنفسهم، فما بالنا وبين الفلسطينيين.

فمجتمع مثل هذا يقوم على فكرة محتالة ومدلسة وواقعها مهترئ لن تدوم.

يظهر ذلك عند تعرضهم لأي ضغوط وأخطار يشعرون بها، تظهر عندها عقدهم وحقدهم فيسارعون يتهمون ويلومون بعضهم البعض، كما تصيبهم بعقد نفسية دائمة.

المدققون ممن يعرفون تفاصيل وخلفيات ومكونات هذا المجتمع يعرفون أن الشخصيات والطوائف والمجموعات والأحزاب المختلفة والمتصارعة تكون غالبا من خلفيات متضادة عرقيا ودينيا، وليس مجرد خلافات في السياسات ووجهات النظر.. أي أن الخلافات جذرية ووجودية.

لم يستطع اليهود رغم الجهود الجبارة على مدى عقود أن ينصهروا في قومية واحدة، كما خططوا، فهم في صراعات مستمرة عرقية ودينية وفكرية، ناهيك عن الفشل السياسي والأمني والاستخباراتي والعسكري الذي يعانون منه، وهذا ما شاهدناه جليا يوم السبت 7 أكتوبر وما بعده، كلها تبشر بزوالهم قريبا بإذن الله.

كثير من مفكريهم وسياسييهم ومنظريهم وكثير من النشطاء والخبراء على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وصحفهم وقنواتهم الفضائية يناقشون هذه المسائل ويشعرون بخطر حقيقي، لاسيما أنهم يعانون من عقدة الثمانين وهي عدم استمرار دولهم أكثر من 80 سنة، كانت لهم دولتان لم تدوما وهذه الثالثة تلحق بهم قريبا بإذن الله.

________________________ (*) كاتب وباحث مصري

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة